«نسمّي من أجل الآخر»، ومعنى أن نُسمّي، كما يرى بول سيبلو، «ليس أن نتموضَع تجاه الموضوع فقط، وإنّما اتّخاذ موقفٍ أيضاً تجاه تسمياتٍ أخرى للموضوع نفسه يَتّخذ من خلالها متكلّمون آخرون موقفَهم تجاهه. ويحدث من جرَّاء ذلك أن يَتموضعَ هؤلاء المتكلّمون تجاه الآخرين» (التسمية وإنتاج المعنى، Langages n° 127).التموضُعُ تجاه الكلمة انقسمتْ حوله مواقف نظريّة (مُختلفة)؛ فثمّة مَن يعتبر «الوحدة الاسميّة وحدة مستوعبة ومشفَّرة في مجال دلالة المرجعيّة، وهي نتيجة فعل تعميدي مسبق، أو نتيجة لعادةٍ علائقيّة مُشترَكة أَفضت إلى استقرارها». وثمّة من يَميل – كما هو الحال لدى مُحلّلي الخطاب – إلى: «الاهتمام بالطريقة التي يَستخدم بها متكلّمون كلماتٍ محدَّدة في وضعيَّةٍ معيَّنة (…)، فعندما يتعلّق الأمر باختيار كلمات تَصِف وتُصنِّف حدثًا أو شيئًا أو شخصيةً، وفي الوقت نفسه نتمتّع بسلطةٍ معيَّنة، فإنّ القصديّة البراغماتيّة (الأثر الذي نُريد إنتاجه) دائمًا ما تطغى على مسؤوليّة اختيار كلمات يتعيَّن على المُتحدّث اختيارها. إنّنا نبحث عن صورة توثِّر، وعن كلمة تؤلِم، وعن استعارةٍ تُدهِش من دون اكتراثٍ لمحمولات الكلمة…» (سوفي موران وريمي بوركييه: من أخلاقيّات التسمية إلى أخلاقيّات التأويل). كلّ ما نتلفّظ به يَفترِض مُراعاةَ الحدّ الأدنى من قوانين الخطاب (الصدقيّة، والتعاوُن، والملاءمة،…) التي يُتوقَّع أنّ الفاعل يوليها أشدّ درجات العناية. نُخاطب الآخر لنؤثِّر به. وبمجرّد أن يُشيَّد هذا التأثير على خطاباتٍ لا تراعي هذه القوانين، فإنّه مُهيَّأ للانزلاق مباشرةً نحو خَلَلٍ في مسؤوليّتِهِ التلفّظيّة تجاه الذي «يُسمّي من أجله».لكنّنا أيضًا نُسمّي من أجل الذّات. تسمية الأشياء بمُسمّياتها (فعل) احترام عميق للذات. الذات التي تسعى إلى تطوير نفسها واختبارها وتطويرها هي ذات مهمومة (أخلاقيًّا) بنفسها قَبل التزامها تجاه الآخر. صيانة الذّات قد تكون السبيل الوحيد لصيانة الآخر، التسمية من أجل الذّات تعني الاشتغالَ على تشييد علاقةٍ أخلاقية معها ومن أجلها. تتلفّظ الذات بما تعتقد أنّه الحقيقة، وبما تَعتقد بأنّه مطابق للواقع بمعزلٍ عن الصواب والخطأ؛ تتموضع في فضاء الصدقيّة، انطلاقًا من أنّ النيَّة (الحسنة والسيّئة) هُما معيار ارتباط الفاعل بقول الحقيقة؛ انطلاقًا من مُسلَّمة حادّة، وهي أنّ موطن الحقيقة يجب أن يكون في الكلمة التي تُنتجها عمليّةُ التسمية.كلُّ فعلٍ تلفّظي هو فعلُ تموضُعٍ اجتماعي، وأخلاقي، وأيديولوجي، إلى حدّ كبير؛ وكلُّ تموضعٍ من هذه «التموضعات» يَستدعي حتمًا مسؤوليّةً مُحدَّدة: المسؤوليّة التلفّظيّة للمتكلّم. تتجلَّى هذه المسؤوليّة، وفقاً لنظريّة التلفّظ، في: اختياراتنا لألفاظنا، تعبيراتنا، تراكيبنا النحويّة، موقفنا تجاه مضمون الخطاب و(شكله)، وما يُحدثُه الخطابُ من تأثيرٍ في الاتّجاهات كافّة. كما أنّ تجلّيات هذه المسؤوليّة النّاتجة عن تلفُّظ الفاعل بالقول، تُفضي أيضًا إلى انخراطٍ مباشر في سلسلةٍ مُتشابِكة (أو مُتداخلة) من المسؤوليّات: تجاه الذّات، والآخرين، والمُجتمع، وتجاه المبادئ التي يرغب المُجتمع بها واختارها لتَحكُمَ تصرُّفاتِه ورؤيتَه للإنسان. يتطلّب تحقيق هذه المسؤوليّات المتشابكة وعيًا شديدًا بالذّات، واهتمامًا دائمًا بها؛ وعيًا بما يُنتجه فعل التسمية من تأثيرٍ في واقع الفرد (والمجتمع) الثقافي، والسياسي، والاقتصادي.في القرآن العظيم: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾، تدخُّل قرآني لوضع الكلمة في موضعها والتنبيه على واقعة صريحة لإساءة تسمية الأشياء بمسمّياتها. تأخذ الآية المعنى في اتّجاه أنّ الذّات المؤمنة مختلفة عن المُسلِمة. الإيمان منزلة تَختلف عن منزلة الإسلام. مُطالَبة (الفاعل) بالالتزام بالدقّة في تسمية (وصف) الحالة بما هي عليه من دون تجاوُز المكان الدلالي الذي من المفترض أن تتموضَع به. ورود فعل التنبيه في صيغة الأمر يُحيل على أنّنا إزاء حالة صريحة لوجوب التفريق بين الحالتَيْن، وأنّ الفاعل أخطأ في التسمية. رفْضُ انحراف فعْل التسمية والدعوة إلى الالتزام بدقّتها مُرتبط بقلقِ التلقّي وبعواقبيّة الخطاب.من الأمثلة المُستلَّة من عالَم السرد المتّصلة بمأزق التسمية ما يطرحه روبير موزيل في روايته «الرجل الذي لا خصال له»، والتي قالت عنها الشاعرة الفرنسيّة مارغريت دوراس إنّها «محاولة لكلّ شيء، كلّ شيء في العالَم». عنوَنَ موزيل الفصلَ الثالث عشر بـ «حصان السباق العبقري يؤكِّد شعور أولريش بأنّه رجل لا خصال له». يستأنف فيه موزيل (عبر أولريش: الشخصيّة الرئيسة في الرواية) مقارباته النفسيّة والفلسفيّة انطلاقًا من تقريرٍ صحافي حول سباقٍ للخيل تضمَّن وصفًا للحصان الفائز بالسباق. «حصان السباق العبقري» شكَّل العنوان الذي اختاره الصحافي للتعبير عن (إنجاز) الحصان.استوقَفتْ هذه العبارةُ (الملفوظ) أولريش وأخضَعها لتأمُّلٍ قائم على نوع من المَزْجِ بين التحليل العميق والسخرية المُمنْهَجة. لا تتوقّف مضامين ما يرمي إليه «موزيل» من التقاطته لهذا الخطاب عند هذا الفصل، وإنّما يمكن اعتبار هذا الفصل وما قَبله من الفصول مقدِّمةً لتحليلٍ مستفيض ومُمتدّ لمفاهيم متعدّدة، على رأسها مفهوم «العبقريّة» وكلّ ما يُحيط بظروفِ إنتاجه من خطاباتٍ اجتماعيّة وتأويلاتٍ مُحتمَلة. يتعلّق الأمر بـ «خللٍ لغويّ أخلاقيّ»، مُرتبط بالمسؤوليّة التلفّظيّة للفاعِل، أنتجه، في هذا السياق، مُمارسة عمليّات «تفريغ وتعْبئة» دلاليّة مقصودة. ببساطة، ومن دون شعورٍ بالانزعاج، يُزحْزح الفاعل «الصحافيّ» العبقريّةَ (التي تحيل على القوّة الإبداعيّة النادرة للفرد) إلى صفةٍ يُطلقها على حصانِ سباقٍ قويّ مُبرمَج على خَوْضِ هذا النّوع من المُمارسات الرياضيّة. «تبذيل» مفهوم العبقريّة أفرغه من مضامينه الكبرى، واتَّجه به بعيدًا عن «حقيقته» وعن المعاني والحمولات التي استقرَّ عليها الاستعمالُ اللّغوي والاجتماعي. تذويب العبقريّة في حيوانٍ «مُبرمَج» يتمتّع بقوّةٍ جسديّة وإدراكٍ هائل، لكنّه غير مفكّر وليس بوسعه الوعي بأنّ ثمة عالَمًا خارج إطار الحَلبة التي يجري بها، يَجعلنا إزاء مُخاتلةٍ لغويّة، قائمة على سلوكِ فاعلٍ غَير مُكترِثٍ بفعْل التسمية وظروف إنتاجها.الاستعمالُ السيّئ للعبقريّة جَعَلَ «أولريش»، الذي وُلد ومعه الرغبة في أن يصبح أملًا للجمهوريّة، يُقرِّر أنّه «لم يَعُد يريد أن يُصبح أملًا». وذلك لأنّه يَرى أنّ الأملَ الوطنيّ الكبير (الإنسان النافع) يجب أن يكون في «وطن الحقيقة»؛ أي الوطن الذي يَهتمّ قَبل كلّ شيء بالعقل، وبالعِلم والعمل والإنتاج، وبنموّ المجتمع واقتداره المعرفي والعلمي، وبتحريره من الخرافات والتلاعب بالعقول، والنّأي بالنَّفس عن اللّهث خلفَ المناصب وهوَس الصعود الاجتماعي. بالنسبة إلى أولريش، أن يكون الإنسان أملًا وذا شأن يَعني أن يُكرِّس المواطنُ كلَّ طاقاته للعمل والإبداع، وفي الوقت نفسه لإدراك قيمة الفرد واحترامه بكلّ تعقيداته حتّى ولو لم تتوافق مع أحكامنا المسبقة.الحدود بين الكذب واللّااكتراث الخطابيّيَستحضر «موزيل» هذه العبارة (الملفوظ) ليُعبِّرَ أيضًا عمَّا وصلَ إليه خطابُ الإعلامِ بكلّ وسائله من حالةِ تقهْقُرٍ حادّة. الرغبة في التأثير تَجتاح أخلاقيّات المهنة وقيَمَ الالتزام التي تتحكّم بديناميَّاتِه، وتُحوِّله إلى مُستعمِلٍ كبير لآليّات التعميم والخلْط والاختزال. أداته الكبرى لتحقيق كلّ غاياته تكمُن في التلاعُب بالتسمية. كلمات وخطابات تتقصّد عدم تسمية الأشياء بمُسمّياتها تتحوَّل إلى خطِّ إنتاجٍ لخطاباتٍ قائمة على تجويف الكلمات والمفاهيم من حمولاتها. تجويف قصديّ للكلمات تتجلَّى عَبْرَه مخاطر خطابيّة تُحدِث تأثيراً مباشراً على نموّ الكائن الإنساني، وتُفقِده الرغبةَ في إنتاج المعرفة والعمل؛ كما يتحوَّل فيه فعلُ التسمية من ناقلٍ للحقيقة إلى موجِّه قصديّ للخطاب.في سياقِ هذا النّوع من الممارسات الخطابيّة: هل مَارَس «الأعراب» و«الصحافي» الكذب؟ هل ما قالوه يَندرج ضمن ممارسات الكذب؟ أم إنَّ ما قيل يَندرج ضمن ما يُمكن تسميته باللّا اكتراث الخطابي أو بعبارة أدقّ انعدام قلق القول؟ خطابات الحياة اليوميّة في فضاءات العمل وفي المجالس والأماكن العامّة (المقاهي وغيرها) مُترعة بهذا النَّوع من المتلفّظين غير القلقين على ما يقولون. نُواجِه أحكامًا قيَميّة على مجتمعاتٍ بأكملها، نواجه أحكامًا قيميّة على أفرادٍ وشخصيّاتٍ عامّة، نُواجِه تعميمًا كسولًا على ظاهرةٍ من الظواهر. هل ما يُمارسه هؤلاء يَندرج في مُمارسات الكذب؟ أم أنّهم مُتلفّظون غَير مُكترثين بسلطة الكلمة وما تحمله خطاباتُها من تأثير ومخاطر في الوقت نفسه؟ الكذب هو قول خلاف ما هو عليه الواقع مع قصديّة خداع الآخرين. والمسألة كلّ المسألة تكمن في سلوك «القصديّة» الذي يَرسم الحدودَ بين الكذب واللّااكتراث الخطابي.قلق التسمية هو أيضاً الذي جَعَلَ فيكتور هيغو يقول في خطابه حول البؤس في العام 1849 في (البرلمان الفرنسي): «البؤس، هذا الشيء الذي ليس له اسم». في هذا الخطاب التأييدي لمشروع أرماند ميلا، يُندِّد هيغو بالتقاعُس في مواجهة الفقر وعدم الوقوف مع المُهمَّشين. ما الذي حدا بفيكتور هيغو، وهو مَن هو باللّغة وبالبلاغة، أن يُعلنَ انهزامَ الكلمة أمام الواقع؟ هل الواقع أكبر من الكلمة؟ ما نسمعه في حياتنا اليوميّة من حيرة المتكلّم عن التعبير إزاء واقعة معيَّنة أو حدثٍ معيَّن بقوله: تَعجز الكلمات عن وصف ما أشعر به (أو شيء من هذا القبيل) قد يكون مرتبطًا بحقيقة أنّ للكلمة نطاقها وحدودها. تُساير الواقع إلى حدٍّ معيّن لكنّها في لحظة خطابيّة (إنسانيّة) تَخذل الفاعل الذي لا يَجِد فيها ما يروي بها ظمأه الدلالي والإنساني. عدولُ هيغو عن التسمية إعلانٌ لتقهقر الكلمة أمام فداحة واقع البؤس. تموضُع هيغو دون الكلمة ناجم عن شعور حادّ بمسؤوليّةٍ تَلفُّظيّة عميقة تجاه التسمية من أجل الذّات والآخر. شعورٌ وقلقٌ خطابيّ عبَّر عنهما بعد قَرنٍ من الزمان، تقريباً، ألبير كامو بقوله: «إنّ إساءة تسمية الأشياء بمسمّياتها يعني إضافةَ مصيبةٍ إلى مصائب العالَم». أو بترجمةٍ أخرى: «إنّ تسميةَ شيءٍ ما بشكلٍ خاطئٍ هو إضافةٌ إلى تعاسةِ هذا العالَم».ما يُميِّز «نظريّة التلفُّظ» تركيزها على «الفاعل» وممارساته التلفظيّة. وطالما أنّ الحقيقة في الكلمة، فإنّ الفاعل «المُتلفّظ» هو المسؤول الأوّل قَبل غيره عن علاقة الكلمة بالحقيقة. دراسة «الفاعل» لم تَحظَ بما حظِيَ به فعلُ التلقّي، وما يُحدثه الخطاب من تأثير. ولذلك، نَفترض أنّ تكثيفَ التركيز على دراسةٍ كفيلٌ بأن يُقدِّم لنا مفاتيح أسباب الخَلل الذي يعتري «الفاعل» من زاوية مسؤوليّته التلفّظيّة تجاه الكلمة والخطاب. أخلاقيّات التسمية في قلب الأخلاقيّات اللّغويّة متّصلة (بالإضافة إلى ما تمَّت الإشارة إليه) بظواهر متعدّدة، من بينها العلاقة مع المجاز والاستعارات، وما قد يُحدثه الخَلَلُ في استعمال المجاز وتصوير الأشياء في غير موضعها. خلل التسمية هو حتمًا خللٌ متّصل باختياراتنا المجازيّة (حصان السباق العبقري.. وغيرها من النماذج المشابهة) هو في الوقت نفسه إساءة تسمية ناتجة عن خللٍ في استعمال المجاز. ثمّة تشابُكٌ لغوي «خطابي» بين فعْل التسمية وفعْل الوصف، غير أنّ فعْلَ التسمية يُشكِّل فضاءً يتضمَّن فعلَ الوصف بما هو «ذكر الشيء بما فيه من أحوال وهيئات» وفي الوقت نفسه، يتجاوزه نحو تماهي الفاعل مع الكلمة وظروف إنتاجها وتأويلاتها اللّغويّة والأخلاقيّة والأيديولوجيّة الـ «مؤجَّلة».*أكاديميّ مختصّ في اللّغويات من السعوديّة* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي
Source link