يُوصف الستاتين يومياً لملايين المرضى للوقاية من أمراض القلب والشرايين، وهي أمراض تعد من الأسباب الأولى للوفاة عالمياً. ورغم أن هذه الأدوية أسهمت في تقليل الجلطات القلبية والدماغية، إلا أنها أصبحت محور نقاش حاد، يتأرجح بين من يراها «دواء منقذاً» ومن يصفها بـــ«الترقيع». ويتغذى هذا الجدل من الخوف المتعلق بالآثار الجانبية التي قد تصاحب استخدامها، مثل ارتفاع طفيف في خطر الإصابة بالسكري، أو الشعور بآلام عضلية، أو ارتفاع إنزيمات الكبد لدى بعض المرضى، إضافة إلى شكاوى متفرقة تتعلق بالذاكرة والتركيز.
عندما تنتشر مثل هذه المعلومات على وسائل التواصل الاجتماعي، فإنها كثيراً ما تُقدّم بلغة عاطفية مختصرة، تثير القلق أكثر مما تشرح الواقع. ويبدأ الخيط الرفيع بين الحقيقة والمبالغة في التلاشي. لكن عندما نعود إلى الأرقام، تتضح الصورة بشكل مختلف. فخفض مستويات الكوليسترول الضار بمقدار واحد مليمول لكل لتر يرتبط بانخفاض يقارب 20% من خطر الجلطات القلبية والدماغية. هذه النسبة لم تأت من دراسة واحدة، بل من سلسلة دراسات واسعة شملت عشرات الآلاف من المرضى، وأثبتت انخفاضاً حقيقياً في الوفيات، ليس فقط لدى المصابين بأمراض قلبية، بل أيضاً لدى من لديهم عوامل خطورة أخرى. وقد تكررت هذه النتائج على مدى سنوات طويلة، مما جعل الستاتين واحداً من أكثر الأدوية التي بنيت فائدتها على قاعدة صلبة من الأدلة العلمية.
أما الآثار الجانبية التي يثار حولها الجدل، فهي موجودة لكنها ليست بالحجم الذي يصوره المشككون. فالزيادة في خطر السكري صغيرة، تحدث لدى عدد محدود من الأشخاص وغالباً ما يفوق أثر الوقاية من الجلطات القلبية والدماغية هذا الخطر. أما آلام العضلات فغالباً ما تكون مرتبطة بعوامل نفسية وتوقعات سلبية أكثر من كونها ناتجة عن الدواء نفسه، فيما تبقى المضاعفات الخطيرة مثل تكسر العضلات أو إصابة الكبد حالات نادرة جداً يمكن رصدها ومتابعتها بسهولة. وفي حال لم يتحمل المريض العلاج، فإن هناك بدائل فعالة أخرى، وبروتوكولات دقيقة للتعامل مع كل عرض جانبي.
من الطبيعي أن يثير حجم الأرباح التي تحققها شركات الأدوية بعض الريبة، لكن قيمة الدواء لا تقاس بما تربحه الشركات، بل بما تثبته الدراسات المستقلة المحكمة. في المقابل لا يمكن إنكار أن التسويق الدوائي تجاوز أحياناً حدوده، ولهذا وضعت الإرشادات الطبية الدقيقة التي تحكم وصف هذه الأدوية بحيث لا يعتمد القرار على الدعاية التجارية، بل على معايير علمية واضحة يتبعها الأطباء.
الخطر الحقيقي لا يكمن في الجدل، بل في مكانه. حين تنتقل النقاشات الطبية المعقدة إلى منصات التواصل الاجتماعي، فإنها تفقد دقتها وعمقها وتتحول إلى رسائل قصيرة، مشحونة بالعاطفة سهلة الانتشار، لكنها في الغالب ناقصة أو مضللة. المريض الذي يقرأ تغريدة واحدة قد يتخذ قراراً مصيرياً دون استشارة طبيبه. أحدهم قد يوقف علاجه فجأة، وآخر قد يرفض بدء الدواء رغم وجود توصيات طبية قوية، وثالث يعيش قلقاً مستمراً من علاج قد يكون حامياً له من جلطة قلبية أو دماغية.
النقاش العلمي الحقيقي لا يبنى على الانطباعات والتجارب أو الآراء الشخصية، بل على مراجعة دقيقة للأدلة. مكانه الطبيعي ليس في المنصات العامة، بل في المجلات العلمية المحكمة، والمؤتمرات الطبية، ولجان الإرشادات الإكلينيكية، وحوار المختصين فيما بينهم. هناك تُناقش الأرقام، وتُفحص الفرضيات، وتراجع الدراسات، ويُفرّق بين الإحصاء العلمي والضجيج الإعلامي. أما في فضاء التغريدات، فالغالب أن ينتصر ما يثير الانتباه لا ما يثبت بالحجة.
الأكيد والمثبت أن أدوية الستاتين أداة وقائية فعالة لها فوائد مثبتة ومضاعفات محدودة يمكن التعامل معها، بشرط أن يستخدم في السياق الصحيح وتحت إشراف طبي. الجدل غير المنضبط حوله في مواقع التواصل يضر أكثر مما ينفع. النقد العلمي ضروري لكن مكانه في الساحات التي تحترم المنهج والدليل، لا في ساحات مواقع التواصل الاجتماعي.
الطب لا يمارس في ساحات التواصل الاجتماعي ولا عبر آراء وتجارب شخصية، بل في أروقة المستشفيات والعيادات عبر أدلة مبنية على أبحاث علمية رصينة وإرشادات إكلينيكية توازن بين النفع والضرر وتضع مصلحة المريض في قلب كل قرار.