بل لعل المفارقة الأشد إيلامًا أن بعض من يُصنَّفون اليوم ضمن فئة «رجال الأعمال الجدد» أو «الجيل الشاب من الرياديين» أسوأ في تفكيرهم وإدارتهم من الجيل القديم الذي سبقهم.
فالجيل السابق، رغم محدودية معارفه واعتماده على الأساليب البسيطة في الكسب، مثل شراء الأراضي والاحتفاظ بها حتى ترتفع قيمتها، كان على الأقل يعرف حدوده، ويُدرك ما يتقنه، ويعمل ضمن قدراته دون تظاهر أو تضخيم للذات. صحيح أنهم جمدوا رؤوس أموال ضخمة وأعاقوا جزءًا من الحركة الاقتصادية عبر «الاكتناز العقاري»، لكنهم لم يدّعوا الفهم في مجالات لا يعرفونها، ولم يتلبسوا ثوب الخبرة أو الريادة الزائفة.
ثم جاء جيل الأبناء، الذي كنا ننتظر منه نقلة نوعية في التفكير والنهج، بحكم أنه درس في الجامعات الأجنبية، وتعرّف على ثقافات مختلفة، ويتحدث لغات متعددة. توقعنا أن يكون أكثر انفتاحًا ومرونةً وابتكارًا وبعد نظر. لكن المفاجأة أن كثيرًا من هذا التعليم والانفتاح لم ينعكس إيجابًا على طريقة التفكير أو أسلوب العمل، بل في بعض الحالات أدى إلى نتائج عكسية.
ظهر جيل يدّعي ريادة الأعمال، رغم أن بداياته كانت بأموال العائلة وعلاقاتها. ومع ذلك، يُقدَّم في المؤتمرات والحوارات وكأنه منظر اقتصادي. ونغضّ الطرف عن مظاهرهم الحديثة ولباسهم المختلف ونقبلها كجزء من الانفتاح، لكننا نصطدم بالحقيقة حين نكتشف أن جوهر فكرهم -وهو الأهم- لم يتغير: ما زالوا يدورون حول الفكرة القديمة نفسها، تجميد الأموال في العقار والأراضي، لكن بواجهة عصرية وعبارات «مودرن» براقة.
المظهر الجديد لا يُغني عن فكر قديم، ولا يمكن أن يصنع الريادة من عقلية ما زالت تُفكر بمنطق «الملف العلاقي الأخضر».
ولذا، رغم اختلافنا مع تجار العقار التقليديين من جيل الآباء، إلا أننا نحترم فيهم الصدق مع الذات والتواضع في الطموح؛ فالتاجر القديم، بشماغه الأصفر، كان أكثر أصالة وواقعية من كثير من هؤلاء المتأنقين الذين ارتدوا ثوب الحداثة، لكنهم ما زالوا يفكرون بعقل الأمس.
لم تُضِف أيها الجيل الجديد من تجّار العقار أي قيمة نوعية حقيقية للاقتصاد أو للوطن سوى أناقة المظهر وحداثة اللباس، بل زدت عليهما غرورًا مفرطًا. وكما يقول أهل البادية: «نَفس خايسة بجلدٍ مروح»، أي مظهر متجدد يخفي جوهرًا راكدًا.
التقينا ببعض هذه النماذج المنفوخة من الجيل الحديث في الخارج، في عواصم العالم ومدنه الكبرى، وهناك حيث تكون الصراحة أوضح والحوارات أكثر تحررًا، وجدنا أنهم لم يستوعبوا بعد روح رؤية 2030، وما تحمله من فرص وتحولات. الرؤية تسحب الجميع إلى المستقبل، تفتح مجالات جديدة وتوسع الأفق الاقتصادي، بينما لا يزال هؤلاء متمسكين بعقلية «الملف العلاقي الأخضر» التي لا ترى في الاقتصاد سوى كنز الأراضي والاحتفاظ بها. بل الأسوأ أنهم ينتقدون المجالات الحديثة والصناعية، والتقنية، والخدمية بحجة أن أرباحها أقل وأنها تتطلب جهدًا وتوظيفًا! لكن المشهد تغيّر، فبعد القرارات التاريخية التي اتخذها سمو ولي العهد (العيدية)، بدءًا من فرض الرسوم على الأراضي البيضاء، مرورًا بضبط أسعار الإيجارات المبالغ فيها، وانتهاءً بحماية المستأجرين والمشروعات الصغيرة من جشع بعض الملاك الذين رفعوا الإيجارات بنسبة تجاوزت 100 %، بات هؤلاء التجار الجدد في موقف لا يُحسدون عليه.
لقد تعودوا على الربح السهل من دون تفكير أو إنتاج، والآن أُجبروا على استخدام عقولهم، والتفكير بطرق مبتكرة، واستهلاك قليل من «الجلوكوز العقلي» وعلقوا فهم لا يعرفون كيف يديرون مجالات جديدة، صناعية أو تجارية حقيقية. ومع انكشاف زيف هذه التهم الإعلامية، وجدوا أنفسهم عالقين، لا يعرفون كيف يبررون تنظيرهم السابق على الآخرين! شخصيًا، أكنّ احترامًا لأي رجل أعمال، سواء كان من الجيل القديم أو الشاب، يعمل بصدق في أي مجال منتج، حتى لو كان متجرًا بسيطًا أو مشروعًا خدميًا أو مطعمًا صغيرًا، طالما يوظف السعوديين ويدعم الاقتصاد الوطني. فهو أكثر نفعًا للوطن والمجتمع من تاجر أرضٍ راكدٍ لا يُنتج ولا يُشغّل، بل يكتفي بالمضاربة ورفع الأسعار.
لقد جاءت رؤية 2030 لتُرسخ سمتين رئيسيتين: العدالة والتحفيز.
فمن حيث العدالة، أطاحت الدولة برؤوس الفساد الذين كانوا يحتكرون المشاريع بعلاقاتهم، لا بكفاءتهم. أذكر أن أحد التنفيذيين في شركة أجنبية كبرى حكى لنا كيف فاوض، قبل عهد الحزم، أحد كبار تجار الفساد حول مشروع ضخم في المملكة، فسأله عن دوره في التنفيذ، فأجاب التاجر بثقة: «أنا أضع اسمي فقط، وهذا يكفي ليُرسى المشروع علينا». تصوّروا إلى أي حد كانت الأمور تدار! أما من حيث التحفيز، فقد فتحت الرؤية آفاقًا جديدة غير مسبوقة في الاقتصاد الوطني، ودعمت التحول نحو الاقتصاد الحديث القائم على الإبداع، والتكنولوجيا، والصناعة المتقدمة، وقدمت التسهيلات لكل من أراد أن يشارك بصدق في البناء والتطوير.
وفي جميع دول العالم المتقدم، يحظى التاجر الصناعي بمكانة اجتماعية واحترام يفوق غيره، لأنه يخلق قيمة مضافة، ويُوظّف، ويُحرّك الدورة الاقتصادية. انظر إلى قوائم أغنى أغنياء العالم في الاقتصادات الكبرى؛ ستجد الغالبية من الصناعيين والمبتكرين والماليين، ونادرًا ما يتصدر العقاريون. أما عندنا، فقد اعتاد المجتمع أن يُمجّد العقار وكأنه معيار النجاح الوحيد، وهو خلل فكري يجب أن يتغير.
الدولة، بطبيعتها، تدعم الجميع وتمنح فرص النجاح لمن يستحق، لكنها لا تتهاون مع من يتغوّل على المصلحة العامة أو يضر بالمواطن. وقد أثبتت ذلك مرارًا، سواء عندما أطاحت بتجّار الفساد أو عندما واجهت جشع مكتنزي الأراضي ومضخّمي الأسعار في الإيجارات.
المستقبل اليوم لصُنّاع الفعل لا لحُرّاس التراب.
رؤية 2030 ستفرز جيلًا جديدًا من التجار الحقيقيين، مبدعين، منتجين، ومجتهدين، يضيفون للاقتصاد قيمة، ويقودون التحول نحو الصناعات الحديثة والتقنية المتقدمة.
أما أولئك الذين اكتفوا بتغيير اللباس دون تغيير الفكر، وما زالوا يعيشون بعقلية “الملف العلاقي الأخضر”، فقد تجاوزهم الزمن، ولم يعد الوقت في صالحهم.