حين تتأمل المشهد الثقافي، تكتشف أن كثيرًا من الكتب ليست سوى مرايا ضخمة ينظر فيها الكاتب إلى نفسه. العناوين تتأنق، الأغلفة تبرق، حفلات التوقيع تمتلئ بالتصوير لا بالقراءة. وإن سألته عن فكرته، عن جوهر ما كتب، ستراه يتلعثم. لا لأنه خجول، بل لأنه ببساطة لا يعرف ما كتب. كان مشغولًا أكثر بالـ«كيف أبدو» من الـ«ماذا أقول».
الشوفينية ليست مجرد تعصب للأوطان، إنها أحيانًا تعصب للذات. المثقف العربي الشوفيني لا يدافع عن فكر، بل عن صورته كمفكر. يكتب لا ليضيف إلى الثقافة، بل ليُضاف اسمه إلى قائمة المثقفين. وهكذا يصبح كل كتاب شهادة حضور في السوق الثقافية، لا عملًا فنيًا أو فكريًا له روح.
حتى مع هذا التطور الثقافي الهائل في السعودية -المعارض، الجوائز، الفعاليات، والانفتاح الفكري غير المسبوق- ما زالت الشوفينية تتسلل في ثوب جديد: شوفينية الاستعراض. الكاتب لا يناقش فكرة، بل يسوّقها كمنتج. والقارئ لا يقرأ بحثًا عن وعي، بل عن انتماء. وكل طرف يمدح الآخر لأنهما ينتميان للـ«مشهد»، لا للفكر.
صحيح أن الاستعراض سلوك بشري فطري، من أول صورة نشرها الإنسان على جدار الكهف، إلى آخر تغريدة يكتبها المثقف المتخم بالثناءات. لكن غير الطبيعي أن يتحوّل هذا السلوك إلى سمة المثقفين الجادين. غير الطبيعي أن يصبح الكتاب مرآة للغرور، لا نافذة على الوعي.
الإنتاج الأدبي حين يفقد عمقه يتحوّل إلى ترفٍ شكلي. الكاتب يُؤلف ليُعرف، لا ليُفهَم. والناشر يطبع ليبيع، لا ليقدّم شيئًا يستحق أن يُقرأ بعد عقد. ثم تأتي الجوائز لتكرّس الوهم، فتُكافئ الجماليات قبل أن تسأل عن الجدوى.
الكتابة الصادقة ليست في اللغة الرفيعة ولا في الاقتباسات الثقيلة، بل في الإحساس الحقيقي بأنك تكتب لتغيّر شيئًا في القارئ، لا لتلمع أمامه. اليوم، كثير من الكتّاب يكتبون بذكاء تسويقي، لا بذكاء إنساني. يعرفون كيف يجذبون القارئ، لا كيف يحرّكونه.
المثقف الذي يتعامل مع الكتاب كإعلان ذاتي، يقتل فكرة الثقافة نفسها. فالثقافة فعل تواضع، لا فعل استعراض. المثقف الحقيقي لا يحتاج إلى تصفيق، لأن فكرته تصفق له وحدها في ضميره. بينما المزيف يعيش على صدى الإعجاب، ويخاف الصمت أكثر من الخطأ.
ربما حان الوقت أن نعيد تعريف النجاح الثقافي. ليس بعدد النسخ الموقعة، ولا بالمتابعين في منصة x، بل بما يبقى من نصوصنا حين يختفي اسمنا. الإنتاج الأدبي الحقيقي لا يقاس بالحضور، بل بالبقاء.
إن هشاشة الأدب العربي ليست قدرًا، بل نتيجة مباشرة لثقافة تستبدل العمق بالعرض. ما نحتاجه ليس مزيدًا من الكتّاب، بل مزيدًا من الصدق. ليس مزيدًا من الإصدارات، بل من الأفكار التي تعيش بعد أصحابها.
حين يعود الكاتب إلى قلقه الإنساني الأول -لا إلى جمهوره- سيستعيد الأدب روحه. حين يكتب لأنه مضطر أن يقول، لا لأنه يريد أن يُرى، سنعود نقرأ الأدب كما نقرأ أنفسنا. إلى ذلك الحين، ستظل كثير من الكتب تُقرأ بعيون مبهورة، لا بعقول مفتوحة.