وبالرّغم من اتّخاذي روما مقامًا والتحاقي بالتدريس في الجامعة الإيطاليّة، ظلَّ الإسهامُ في الإنماء المعرفيّ العربيّ حاضرًا لديّ، وذلك بموجب عاملَيْن أساسيَّيْن: حرصي على تطوير المناهج العلميّة لدراسة الأديان في البلاد العربيّة بَحثًا وترجمةً؛ واشتغالي بالشأن العربيّ والإسلاميّ في قسم الدراسات الشرقيّة في الجامعات الإيطاليّة التي درَّستُ فيها، سواء في نابولي أم في روما.
ونحن نعالج موضوع «أزمة التكوين الجامعيّ» حريّ بنا أن نَستهلّ الحديث من البدايات. «أليس الصبح بقريب؟» هو عنوان كتاب، أو بالأحرى هو برنامج إصلاحيّ تعليميّ سطّرَه الراحل محمّد الطّاهر ابن عاشور خلال صائفة 1907، على أمل تطوير التعليم بغية خلْق خرّيجٍ فاعلٍ في المجتمع، ودارِسٍ مُستوعِب لقضايا العصر، حائز على ما يكفي من الأدوات العلميّة والمعرفيّة. وأحسب أنّ البرنامج لا يزال حيًّا وملحًّا، حين نرى دروس جامعاتنا الدينيّة ومناهجها التعليميّة لا تنأى كثيرًا عمّا نسمعه في خطب الوعْظ في المساجد وفي دروس الحسينيّات. والمَنهج الرثّ والعقيم في كثير من مضامينه وأساليبه، ليس خاصيّة من خاصيّات كليّات الشريعة، بل هو شائع في شتّى الكليّات المدرِّسة للعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة أيضًا. أتساءل أحيانًا أين هو عِلم الاجتماع العربيّ ومدرسته المغاربيّة الرائدة في المجال، من حيث الانشغال بالدّين ولواحقه؟ وهل بلغَ إلى مسامِعنا الحديثُ عن عِلم الاجتماع الدّينيّ، وسوسيولوجيا الأديان، والأنثروبولوجيا الدّينيّة، و«الدراسات الدّينيّة» (Religious studies)؟ وكيف لمُجتمعاتٍ تتنفّس المقدَّس وتَستهلكه، كما تَستهلك الخبزَ والماء، فيما الدّينُ يقع خارج اهتماماتها العلميّة والبحثيّة المُواكِبة لتحوّلات العصر.
الأمر الذي جَعل العقلَ الجامعيّ سجينَ مناخاته، ومستفرِغًا قدراته في الهراء الذي يُنتجه ويُعيد تدويره. لسنا هنا بصدد إعداد جردة حساب أو جلدٍ للذات، لأنّ هذا المقال ليس ذلك مقصده، وإنّما غرضنا التملّي في العُقد المُستعصيةِ التي جرّت إلى هذا التخبُّط والسعيُ إلى تفكيكها، والتي حالت دون بناء قدراتٍ عتيدة تتحاور بجدارةٍ مع ما بات معروضًا على نِطاقٍ كونيّ، إلى حدّ انكفأنا عن عرْضِ مخزوننا الحضاري العربيّ والإسلاميّ، وليتكفّل به غيرُنا في الموسوعات العالميّة المَعنيّة بتراثنا وثقافتنا، وما شابهها من المداخل العلميّة المُعتبَرة التي باتتِ البوّابةَ الرئيسة لمعرفة ماضينا وحاضرنا على نطاقٍ عالميّ.
هذا عجبٌ عجاب
وجهٌ بسيطٌ من أوجه هذا التيه الذي نعانيه، يتجلّى في شكل تواصلنا مع العالَم. ففي قطاع الترجمة الذي أتابعه عن كثبٍ منذ سنوات، وفي أوساطٍ جامعيّة مغاربيّة بعضها يُدرِّس اللّغةَ والآداب الإيطاليّة منذ أمدٍ يَزيد على نصف قَرن، بَيْد أنّها لا تملك في أحضانها أو من ضمن دفعات خرّيجيها مُترجِمًا مُقتدِرًا على ترجمة كتاب أطفال في عربيّةٍ نقيّة تليق بناشئتنا. وهذا عجبٌ عجاب وحديثٌ لا يُصدَّق لدى مَن لا يَعرف البيت من الداخل، ولكنّه واقعٌ أليم عن هدْرِ الزمن الدراسيّ، واستنزافِ الأموال العامّة، وعن شهاداتٍ خادعة صادرة عن جامعات مشوَّهة. ومَن شاءَ التثبّت من الأمر، فلْيبحث عن مترجمين مُقتدرين من الإيطاليّة وإليها، على طول خارطة بلاد المغرب الكبير وعرضِها، باستثناء ثلّة قليلة جدًّا. والسؤال المطروح: هل العقل الأكاديميّ المنهَك والمستنزَف في اللّغو والعَبَث، هو قادر على التواصُل مع أكاديميّات عالميّة والتحاوُر مع كوادرها بنديّةٍ والتثاقُف مع مخزونِها الحضاريّ بكفاءةٍ واقتدار؟ سألني ذات مرّة صحافيٌّ مغاربيٌّ في أثناء برنامجٍ إذاعي، وإحدى الدول المغاربيّة تتأهّب لعقْد شراكة اقتصاديّة واعِدة مع إيطاليا: كيف سنخوض هذه الشراكة وليس لدينا مَن يَفقه الإيطاليّة؟ فلم أجد جوابًا لهول الطامة.
والبيِّن أنّ العياء الذي يُعيق جامعاتِنا عن أداء دَورها، هو على صلة وثيقة بالقدرات المتدنّية أحيانًا لمسؤوليها والساهرين عليها. فخلال إحدى زياراتي لرئيس جامعة مغاربيّة، حدّثني عن التطلُّع إلى تحويل الجامعة التي يترأّسها إلى جامعةٍ عالميّة تَستقطب الطلّاب من شتّى أرجاء المعمورة، وتُروِّج المعارفَ شرقًا وغربًا نظرًا إلى رمزيّة الفائقة التي تحوزها، في حين هو لا يُحسن غير العربيّة، وانشغالاته لا تتعدّى فقهَ القرون الخوالي. فهل ذلك الصنف ممّن توكَل إليه مهامّ المؤسّسات العريقة، لديه القدرة على التواصُل مع العالَم وفهْمِ مقتضياته؟ لا أدري أين تَقف مختلف جامعاتنا للدراسات الدينيّة والإنسانيّة والاجتماعيّة والسياسيّة من مسارات العالَم اليوم وحاجاته ومتطلّباته؟ والحال أنّها تَعقد الندوات والمُلتقيات، وتُنشئ حلقاتِ البحث التي تعجّ بالباحثين والباحثات، مع ذلك تظلّ غير واعية بما يجري في العالَم وتَظلّ منطوية على أسفارها القديمة وتلوك قضايا مهجورة.
كوكب ناء
وقوفي على مَشارفِ ضفّتَيْن حضاريَّتَيْن، جَعلني متيقّظاً لرصْدِ أشكال التمايُز والتفاوُت بين المناهج والمُقاربات، وعلى غايةٍ من الحساسيّة في هذا الشأن. فمنذ أيّامٍ قليلة احتفتْ كوكبةٌ من المُستعرِبين والمُختصّين الإيطاليّين في دراسات الإسلام بإنجاز عملٍ ضخم (588 صفحة) وفي غايةٍ من الإتقان والإخراج، بعنوان: «العوالِم الإسلاميّة» من إعداد الأستاذَيْن ميكالي برنارديني وروبارتو توتولي من منشورات «دار موندادوري». تابَعَ حشدٌ من المُسهمين، كلٌّ من زاوية تخصُّصِه، المنجزَ المعرفيَّ، والتحوّلَ الحضاريّ، والوضعَ السياسيّ والاجتماعيّ، لمُجمل أطراف العالَم الإسلاميّ وحواضره، أو كما أَطلقوا عليها العوالِم الإسلاميّة. جاءتِ الأبحاثُ ذاتَ مَنزعٍ تاريخيّ، وسوسيولوجيّ، وسياسيّ، وفقهيّ، وحضاريّ، وغاصَت في الزمن الإسلامي بأبعاده الثلاثة الماضية والرّاهنة والآتية. الكتاب جديرٌ بالاطّلاع والتمعُّن والترجمة أيضًا لمُواكَبة ما يشغل الآخر، ولإدراك أيّ زوايا يُنظر منها إلى حضارتنا وشعوبنا ومعارفنا. بَيْد أنّ إيطاليا القريبة من بلاد المغرب جغرافيًّا تبدو قصيّة معرفيًّا، وكأنّها في كوكبٍ ناء عن كوكبنا بالنسبة إلى عقلنا الأكاديميّ، وقِس على ذلك جيراننا الأوروبيّين الذين يقاسموننا المتوسّط. فالجامعة التي يُفترض أن تكون في آن، المنصّةَ التي تتقدّمُ جميعَ المُبادرات والقاطرةَ التي تجرّ مُختلفَ العربات، إذا بها تتحوّل إلى هيكلٍ خائرٍ ومُقعَد.
فكما أشرتُ آنفاً، مرّت عقودٌ ثلاثة تقريبًا على اختياري إيطاليا مقامًا، أنتجتُ خلالها عشرة مؤلَّفات وعشرَ ترجماتٍ وسهرتُ على نقْلِ مئة (100 عمل) من الإيطاليّة إلى العربيّة والعكس، في التاريخ، والقانون، وعِلم الاجتماع، وأدب النّاشئة، والسينما، والشعر، بمعيّة ثلّة من المُترجمين، جلّها لفائدة مشروع «كلمة» في أبو ظبي.. أذكر في أثناء انعقاد ندوة في دولة مغاربيّة لمّا اطَّلع أستاذٌ جامعي على سيرتي الذاتيّة، وكان يُشاركني الجلسة، ولم تربطني به علاقة سابقة، علّق هازئًا ساخرًا: لديك «إسهاب» في الكتابة! فلم أُعِر قوله اهتمامًا، لأنّي أُدرك أنّ الكسلَ الأكاديميّ في أوساطٍ جامعيّة قد باتَ قيمةً وفخارًا.
عن الفطاحِلة الجُدد
من جانبٍ آخر، حين يكون الزّادُ المعرفيّ الذي يتلقّاه الطالبُ طيلة مشواره التكوينيّ، لا يُخلّف فيه نباهةً حضاريّة، ولا مقدرةً علميّة، ولا معرفةً متينة بالحقل الذي تخصَّص فيه، فمِن الطبيعيّ أن يتلبّد المستقبل بالغيوم ويتبخّر الرّهان المعوَّل عليه، ويغدو الأستاذُ والباحثُ والدّارس طَرَفاً من ضمن الذين ينتظرون الإنقاذ، لا عناصر فاعلة في تطوير الوطن وإنمائه. ينطبق هذا الوضع على ألوف الخرّيجين من جامعاتنا وقد باتوا جزءًا لا يتجزّأ من ثقافةٍ موبوءة ومن مناخٍ أكاديميّ فاسد ومُفسِد.
وقد كان الأحرى التطرُّق في جامعات العلوم الدينيّة والاجتماعيّة والإنسانيّات وما شابهها، إلى أزمة خرّيجيها، وهشاشة تكوينها، وخواء أطروحاتها، وكساح أساتذتها أيضًا ، وهو ما أَخرجها من معايير التصنيف العالميّة وعدم اقتدارها على خَوْضِ سباق المُنافَسة على جميع الأصعدة؛ ولكنْ غالبًا ما يَقع الاختباء وراء «الظروف»، ونقْص الاعتمادات، وتدنّي المستويات، وهي في جلّها تعليلاتٌ واهية.
من ضمن هذا التراجُع يَلحظ المُراقِب في الراهن الحالي هجرانَ أبناء الفئات المترفّهة، وحتّى أبناء الشرائح الاجتماعيّة المحظوظة من الطبقة الوسطى مدارجها التعليميّة إلى جامعاتٍ خاصّة أو غربيّة، وما عادت جموعٌ واسعة تُعلِّق أملاً كبيرًا على الجامعة الوطنيّة وعلى تكوينها وقدراتها إلّا مَن أعوزته الحيلة، لتقادُم البرامج، وترهُّل الكوادر، وفقدان الصدقيّة في مؤسّساتها، ما حوَّلها إلى مؤسّساتٍ غير موثوقة لتأمين مستقبلٍ واعد. وأمّا الجامعات التاريخيّة في بلاد المغرب، مثل «الزيتونة» و«القرويّين»، وما شابههما، فقد تحوَّلت إلى جامعات «مُتريِّفة» و«مُتكلِّسة» تاريخيًّا، تَقع على هامش فائض التخلُّف الذي يَنهش المجتمعات في وسطها الجامعيّ الوطنيّ، وتَقع خارج التصنيف العالَميّ للمؤسّسات، وكان الأحرى أن تقود هي القاطرةَ المعرفيّة في بلدانها نظرًا إلى عراقتِها وثقلِها التاريخيّ، وقد كان مَنشَؤها قَبل جامعات الدول الغربيّة بأسرها بقرون.
فحين تنوء المؤسّسةُ التعليميّة بمختلف فئاتها، الدّارسة والباحثة والساهرة، تحت وطأة القدامة وعدم الكفاءة والموالاة وتلحق بها الفئة المدرّسة، فالأمر يعني أنّ هناك أزمة هيكليّة تشقّ المؤسّسة برمّتها لا يفيد معها تغييرُ عنصرٍ هنا أو إدخالُ تحويرٍ هناك. وحين يغدو الموكل بالعمليّة الإنتاجيّة للمعرفة في حاجةٍ إلى مَن يرعاه ويَسهر عليه يصير التعويل على المؤسّسة الجامعيّة في رسْم خريطة النهوض وانتشال المجتمع من أوضاعه الرثّة خدعةً كبيرة، يتقاسمها حشدٌ غفيرٌ من الذئاب والحملان بوعيٍ ومن دون وعي. في هذا الوضع لا بدّ من مصارحة كبرى من الأكاديميّين أنفسهم، تُطرَح فيها تساؤلاتٌ حازمة بشأن الهويّة الجامعيّة، وبشأن الجامعيّ المَعنيّ بالتدريس والتأطير والبحث: هل هو في مستوى هذا الدور المعرفيّ والرسالة المُلقاة على عاتقه؟
ولْنَدْنُ قليلاً من أوضاع تلك الجامعات التاريخيّة؛ ما الذي حصلَ في فضاء جامعة مثل «جامعة الزيتونة» إبّان العقود الثلاثة الأخيرة؟ لقد بَلغ الاهتزازُ البنيوي للجامعة مبلغَهُ على إثر الصراع في تونس بين الإسلام السياسيّ ونظام بن علي إبّان تسعينيّات القرن الفائت، ما حوَّل الزيتونة إلى ساحةِ تصفية حسابات طاحنة بين قوّتَيْن: معارضة وسلطويّة، عصفت فيها الأوضاع بالجامعة وشُرِّد أهلها: خرّيجين وباحثين وأساتذة، وأوشكت أن توصد أبوابها لولا خشية أطرافٍ سلطويّة حينها من رمزيّتها التاريخيّة، وأمّا خرّيجوها الذين كانوا يعدّون بالآلاف في الثمانينيّات والتسعينيّات، فقد أوصدت أبواب التشغيل أمامهم وخَضعوا إلى فرزٍ أمنيّ صارم. ألفيتُ نفسي وأنا في مستهلّ مشواري العلمي أتسكّع في شوارع روما، وليس معي سوى شهادة دكتوراة ومخطوطات ترجمة وزّعتها لاحقًا على دور النشر بأبخس الأثمان خشيةَ تَلَفِها، من ضمنها كتاب ميشال مسلان آنف الذكر وكتاب «السوق الدينيّة في الغرب» لمجموعة من علماء الاجتماع الأمريكيين، وهذا غيضٌ من فيض كما يقول المثل.
* أستاذ من تونس في جامعة روما
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الصادرة عن مؤسسة الفكرالعربي