(واحد من بين ثلاثة أشخاص من التمريض أو الأطباء يعانون من أعراض الاكتئاب)، معلومة يفترض أنها لافتة، وردت الأسبوع الماضي ضمن تصريح لمدير منظمة الصحة العالميّة بأوروبا. يبدو العدد كبيرًا، يتجاوز الأرقام المسجلة في السنوات السابقة، ويزداد بين الإناث أكثر من الذكور، ويعود ذلك إلى الفرق الجيني، حيث وجد الباحثون أن النساء يمتلكن ما يقارب ضعف عدد العلامات الجينية المرتبطة بالاكتئاب مقارنة بالرجال.الطبيب، الحكيم في مجاله، المرجع عند كل شكوى، هو أكثر الناس قابلية للاكتئاب، فخلف المظهر المهني الهادئ يقف إنسان يواجه كثيرًا من الضغوطات، ما يجعل الاكتئاب بين الأطباء ظاهرة متزايدة في مختلف أنحاء العالم، إنها المفارقة المؤلمة، الطبيب الذي يعتني بغيره ينسى أن يعتني بنفسه.وبتأمل تصريح مدير منظمة الصحة العالمية، لابد من ذكر أن دراسات عالمية أشارت إلى أن نسبة الاكتئاب بين الأطباء تتجاوز المعدلات العامة في المجتمع، ويرجع ذلك إلى مجموعة من العوامل المتشابكة.فالأطباء يواجهون يوميًا حالات حرجة ومواقف صعبة، ويعملون لساعات طويلة بلا راحة كافية، ما يؤدي إلى الإرهاق المزمن وفقدان الشغف. كما أن ثقافة المهنة في كثير من الأماكن لا تشجع على الحديث عن المشاعر أو طلب الدعم النفسي، ما يدفع الطبيب لإخفاء ألمه بصمت.من أبرز العلامات التي قد تُنذر بالاكتئاب، التعب المستمر، اضطراب النوم، فقدان الرغبة في العمل، الشعور بالذنب أو الفشل، والعزلة الاجتماعية. دون إغفال غياب الدعم النفسي، أو عدم اللجوء إليه، فثقافة الطب في كثير من المجتمعات لا تشجع الأطباء على طلب المساعدة النفسية، إذ يُنظر إليهم كأشخاص أقوياء لا يضعفون، فتراهم يكتمون مشاعرهم ولا يلجؤون للعلاج مبكرًا، ما قد يفاقم الوضع، ليتأثر أداء الطبيب مهنيا، ناهيك عن صحته العامة.هناك الكثير من الأطباء يجدون صعوبة في تحقيق توازن صحي بين عملهم وحياتهم الشخصية، انشغالهم المستمر يجعلهم يهملون علاقاتهم الاجتماعية والعائلية، فيشعرون بالعزلة والوحدة.في بعض الأنظمة الصحية، يُثقل الطبيب بالأعباء الإدارية، ونقص الكادر، وتقييمات الأداء، ما يزيد الأمر سوءًا.التعرض المستمر لمعاناة الآخرين، من ألمٍ، مرضٍ وموت، على مدار الأيام، يؤثر في نفسية الطبيب دون أن يدرك ذلك. تبنّي مبدأ المثالية، والبحث عن الكمال المطلق، عبء نفسي آخر يعاني منه بعض الأطباء.الاكتئاب لا يحدث فجأة، بل يتسللُ خلسة، بأعراض قد تمر دون أن يدرك الشخص أنه يمر بأزمة نفسية، كالخوف من ارتكاب الأخطاء، أو بأعراض جسدية كالشعور بالإرهاق المستمر وقلة النوم، أو سرعة الغضب. بعدها يتدنى الأداء الوظيفي وتزداد الأخطاء الطبية، ويكثر الغياب بلا سبب، وأحيانًا كثيرة يبدأ التفكير في ترك المهنة.ويرى مختصون أن مواجهة هذه الظاهرة تبدأ من الاعتراف بها، ومنح الأطباء حقهم في الراحة والدعم النفسي، نشر ثقافة الوعي بالصحة النفسية في بيئة العمل، تشجيع القادة والمشرفين على مراقبة مؤشرات الإرهاق لدى الطاقم الطبي، والمؤسسات الصحية مدعوة لتوفير برامج رعاية نفسية سرية للطواقم الطبية، وتشجيع بيئة عمل متفهمة وإنسانية.الاكتئاب بين الأطباء ليس ضعفًا شخصيًا، بل نتيجة ضغط إنساني هائل، كلما كان الطبيب في بيئة داعمة وصحية، كان أكثر قدرة على العطاء والعناية بالمرضى بصدق وحب وطمأنينة.
Source link