نعم، الأرض أصلُ الزاد والمدَد البشريّ، وهي بمعانيها المتنوّعة، ليست مجرّد مكانٍ نجلس بين أحضانه أو نُقيم عليه، ولا مجرّد قطعة نَمتلكها، أو طريق طبيعيّ نَسير عليها، أو صخرة عالية نطلّ من خلالها على أُفُقٍ طبيعيّ جميل..
إنّها كائنٌ حيّ يَنبض بالعطاء، بل هي الأمّ الحنون الأولى للإنسانيّة، احتضَنت وما زالت تَحتضن بذورَ الحياة، فتُنمّيها وتُعطيها لنا لاحقًا خيراتٍ لا تُقدّر بثمن.. هي «الطين» الذي خُلقنا منه: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِن طِينٍ..﴾ [الأنعام: 2].. وإليها سيعود كلُّ واحدٍ منّا ولو ذرّاتِ رماد، في ما تمثّله هذه السيرورة والدَّورة الأبديّة من أهمّ أسرار ارتباطنا بالأرض ومعنى الحياة عليها وأعمقها، وهي باقية ومستمرّة حتّى يرثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها.
..هي الأرض إذًا أكثر من حالٍ ماديّة نتعايش معها وعليها، بل هي تَعيش فينا، ونحن نعيش فيها.. وتعلُّقُنا بها هو في الأصل تعلُّقٌ موغلٌ في التاريخ، يُعبِّر عن حالةِ ارتباطٍ روحيّ ووجدانيّ وحضاريّ عميق ومتجذّر لا حدود له، على مستوى أنّها:
1 – هويّة ثابتة وذاكرة تاريخيّة
فالإنسان ومنذ أن تفجّر وعيه، لم يَبدأ دورتَهُ الحضاريّة على نحوٍ فاعلٍ ومُنتج، إلّا عندما استقرّ في حيّزٍ مكانيّ، أي في أرضٍ، فبَنى المساكن والقُرى عليها، وبَدأت تترسّخ علاقته بها، واكتشَف أنّها تعطيه ثمارًا وغذاءً وماءً.. يَزرعها ليُنتِج، ويَحفر فيها ليَستخرج الماء والمعادن وباقي الثروات، وبهذا المعنى أضحتِ الأرضُ هويّةً وانتماءً مقدّسًا، تستحقّ أن يُدافِع عنها، ويُضحّي بنفسِه من أجلها، بخاصّة أنّها مَوطِنُ الذكريات والوجدانيّات، بل هي التاريخ والتقاليد والعادات التي يتمّ توريثُها من جيلٍ إلى آخر.. وهي مَصدر الفَخر والاعتزاز، خصوصًا لدى شعورنا بأنّنا جزءٌ منها، من مكانٍ ما عليها، يُشكّل قيمةً فريدةً مُميِّزةً لنا، تاريخًا وهويّةً وطبيعةً فائقة الخصوصيّة.
2 – مَنبع الحياة والعطاء والرزْق
كانت الأرضُ وما زالت على مرّ الأيّام والقرون والأزمان مصدرَ العيش البشريّ، ولولا ما فيها من مَنابع خَيرٍ وعطاء وثروات لَما استطاعَ الإنسانُ أن يُقيم حتّى مجرّد قرية صغيرة.. حتّى أنّها أثَّرت في شخصيَّتِه، فعلَّمته معنى الصبر الإيجابيّ في انتظاره نموَّ الزَّرع والمحاصيل وجنيَ مواسم العطاء، كما جَعلته يُفجِّر طاقتَهُ في عمله الجدّي والدؤوب لحرْث الأرض وسقايَتِها واستصلاحِها واستثمارِ طاقاتِها.. وبهذا المعنى باتتِ الأرضُ، ليست مَصدر حياة وعطاء للإنسان فقط، بل أَضحت بالنسبة إليه الأساسَ الرّاسخ للبقاء والاستقرار النفسانيّ والروحانيّ، بعدما كان يتنقّل من كهفٍ إلى آخر، ومن مغارةٍ إلى أخرى، إلى أن عَرف أنّ الأرضَ قيمةٌ كبيرة من خلال استثمار زراعتها وعطائها واقتصادها.
3 – تركيز السكينة وقيَم السلام الداخليّ
ولَنا أن نتخيّل هنا أنّ الإنسانَ وُلِد من الأرض، ومشى عليها طويلًا حافي القدمَيْن، دونما أن يتركها ولو لثانيةٍ واحدة، تَلامَسَ معها في جَسَدِه وعَبْرَ يدَيْهِ وقدمَيْه، أَخذ من طينِها وأعشابِها ليَبنيَ بيوتًا زراعيّة بسيطة في بدايات خروجه من الكهف وسكنه عليها في بدايات الثورة الزراعيّة.. فكان لذلك أعمق الآثار النفسانيّة والروحانيّة عليه.. واليوم نجد أنّ إنسانَ هذا العصر الذي يريد أن يعيش شيئًا من الهدوء والتركيز النفسانيّ، يترك المدينة في صخبها وضجيجها وهيْمنةِ العلاقات النفعيّة بين سكّانها، ليفرَّ هاربًا نحو الريف والأرض، مُحاولًا استعادة بعض السكينة والسلام الداخلي لروحِهِ ونفسِهِ ووجدانه، وإعادة التواصُل الطبيعي القديم والأزلي مع قوّة الطبيعة والأرض (في السحر الطبيعيّ للجبال والسهول والبحار والوديان وغيرها) بعيدًا من الحياة الصناعيّة المكلفة له روحًا ومادّة.. وهذا هو الجمال والروحانيّة والارتباط الوجداني القويّ بجماليّات الأرض وما فيها من سحرٍ طبيعيّ خلّاب هو جزء من البناء الروحيّ للإنسان، ومصدر الإلهام والسلام الداخلي.
4 – التّعلّق القيميّ الروحيّ الثقافيّ والدّينيّ
وهذا ما نجده في سائر الثقافات والحضارات والأديان، في عادات الناس وتقاليد المُجتمعات.. إذ لا توجد ثقافةٌ واحدة أو حضارةٌ واحدة أو مجرّد جماعة بشريّة صغيرة واحدة، إلّا ولديها علاقة انتماء ثقافي غنيّ بالأرض، وقيمة عليا ومكانة رفيعة عالية ومقدّسة للأرض، باعتبارها وعاء التراث والعادات والتقاليد والحكايات والأساطير التي تُتناقَل عَبْرَ الأجيال، وأيضًا باعتبارها رمزًا للخصب والخير والعطاء، يقيمون من أجلها الكثير من الاحتفالات الموسميّة الزراعيّة التي نَجدها في مواسم الحصاد وجني الثمار المُختلفة والمتنوّعة. وحتّى في الأديان، نَجد أنّ جميع الكُتب السماويّة قد عظّمت من قيمة الأرض، وأَوجبت إعمارَها وعدم الإضرار بها والإفساد فيها، ودَعت إلى المحافظة عليها، وصوْنِها وحمايتِها والتضحية بالغالي والنّفيس في سبيلِها كأعظم نعمة حباها الله تعالى للإنسانيّة جمعاء.
5 – التاريخ المُشترَك والآمال الواحدة
عندما يعيش الناس (سواء كقبيلة صغيرة أم كمجتمعٍ صغير) على أرضٍ واحدة، تُمثّل بالنسبة إليهم إطاراً تُبنى فيه وعليه العلاقات وتُنسَج وشائج التفاعُل والتكامُل الروحيّ والماديّ، وتتشكّل فيه أيضًا العلاقات الاجتماعيّة وتتقوّى الروابط التي تَجمع بينهم، فتنشأ العاداتُ الواحدة، وينمو ويتفاعل التاريخُ المُشترَك وبالتالي المصير الواحد.. بخاصّة أنّ الأرضَ ذاتها كانت صلةَ الوصلِ الوحيدة بين الأجيال، حَملت لهم ومعهم التراثَ والعاداتِ والتقاليد.. وهذا بحدّ ذاته استمراريّة وعطاء مُستمرّ يوحي للإنسان بشيءٍ من قيمة الخلود بما يَدفعه للبذْل والعطاء والتضحية.
6 – قوّة وطنيّة ودافع للتحرّر
وللأرض أيضًا معانٍ رمزيّة وطنيّة، تُعطينا إيّاها على صعيد الوطنيّة والتضحية، والتحرُّر والمقاومة، والوحدة الوطنيّة، وهي معانٍ وقيَمٌ عظيمة، تَدفعنا للتمسُّك بها باعتبارها هويّة ووجودًا مقدَّسًا نرفض من خلاله التهجير والذوبان والتسليم للاحتلالات..
لكن وبالرّغم من كلِّ تلك المعاني الوافرة التي تعطينا إيّاها الأرض، وتُقدّمها لنا روحًا وثقافةً ومادّة، فقد حَدثت وتَحدث شروخاتٌ كثيرة في علاقة الإنسان بالأرض، معنىً ومادةً.. بل يُمكن القول إنّ حالةَ انفصالٍ جَرت لدى الكثير من المُجتمعات في علاقتهم بها.. فقد طَغتِ العلاقاتُ الماديّة في معنى التمدُّن الحضريّ، بعدما اجتذبتِ المُدنُ الكبيرة الكثيرَ من الناس إليها بحثًا عن الدّعة والراحة والطمأنينة، وكثير من إغراءات الاستقرار الماديّ، وأوهام وعود البقاء المضمون.. فرأينا كيف هَجَرَ كثيرٌ من الناس قُراهم ومَزارعهم وأراضيهم المُنتجة، وارتموا في أحضان المُدن والوظائف والمصانع والمكاتب؛ الأمر الذي أَفقدهم الصلةَ والارتباط بالأرض وما تمثّله وجدانيًّا وعمليًّا.. بخاصّة مع تحوُّلِها لدى كثيرين منهم (كي لا نعمّم)، إلى مجرّد سلعة وموقع للاستغلال الاستثماريّ النفعي ليس إلّا، بعدما كانت مَصدرًا للحياة ونَبعًا للعطاء.. وهذا ما نراه من هيْمَنةِ علاقات الاستنزاف الجائر للأرض والطبيعة على عقول التجّار والمُتنفّذين والمُستثمِرين الذين يُقيمون مشروعاتهم عليها، دونما أيّ تقدير واهتمام وحماية للأراضي الخصبة، خصوصًا تلك التي تَمتلك جودةً عالية في تربتِها وخصبها وعطائها.. وتلك هي أعلى درجات التسليع والاستنزاف الجائر للموارد والثروات.
لقد أثَّرت الحياةُ الماديّة للإنسان وميْلُه إلى الدّعة والراحة (وما يعتبره سهولة الحياة الجاهزة والمصنّعة، سَكَنًا وأكْلاً وشُربًا) على تعامله ووعيه ومسؤوليّاته، حتّى في علاقته مع الأرض التي أهملَها، وهذا ما شكّل عاملاً مهمًّا للقضاء على مساحاتٍ كبيرة من الأراضي الزراعيّة الخصبة.. كما سحقتِ النظرةُ التسليعيّةُ الاستهلاكيّة المُهيمنة ذلك الحافز والدافع الضمنيّ لدى الكثيرين لإعادة التواصل مع أرضهم وإعادة زراعتها أو حتّى مجرّد الاهتمام بها كمصدر غذائهم الصحيّ السليم والمعافى لهم ولعائلاتهم وأجيالهم… وعلى ما يبدو فإنّ هذا الإنسان الذي بدأ يأكل طعامًا مُعلّبًا جاهزًا افتقد لمعنى الأرض، عندما افتقد للتعب الذي يجب أن يُبذَل لإنبات حبّة قمح، ففقَد تقديرَهُ للقيمة الحقيقيّة للطعام والأرض التي أَنتجته وأَعطته..!!
والأمر الأكثر أسفًا وخطورةً أنّه قد وُلدت لدينا – وفي كثير من بقاع هذا العالَم – أجيالٌ مدينيّة بأكملها، تَفتقر إلى الحدّ الأدنى من معاني التعلُّق بالأرض في قيمتِها وضرورات الحفاظ عليها.. حيث لم يعُد لديهم أيّ ذاكرة حقيقيّة تربطهم بها، ولا حتّى أقلّ معرفة علميّة بمفردات الزراعة وواجبات العمل فيها وآليّات استثمارها والتواصُل معها، حتّى أنّ الكثير من تلك الأجيال بات يَنظر إلى الأرض على أنّها مجرّد تراب ووحلٍ وطين وربما قذارة، وليس كمعنىً للخصب والخير والنموّ والعطاء.. وهذه نظرة مختلَّة كرّستها ظروفُ العيش المادّي في المُدن، وثقافةُ العمل الجاهزة، وثقافةُ الاستهلاك الزائف.
في السابق كان الانتماءُ والتعلُّق بالأرض مُختلفًا عنه اليوم. كان الانتماءُ ذا طابعٍ وجودي متأصّل وشبه عضوي.. لكنّه بات حاليًّا ذا وجهٍ نفعيّ مصلحيّ آنيّ ضيّق ومرتبط بالتقلّبات الشخصيّة للأفراد والانقياد المرضيّ لهم، بمعنى أنّه مُنحصر في بُعْدٍ ماديّ زائل بزوال لحظة الغريزة وشهوتها.
مُستنتَج القول أخيرًا: إنّها الأرض أيّها السادة، هي أمّ الخيرات، ونبْع الإحساس بالوجود والعطاء الذي لا ينضب أبدًا!!.. فأين يا ترى نحن من مسؤوليّاتنا تجاهها، رعايةً وحمايةً ودفاعًا مقدّساً عن المسّ بمقدّراتها، ماديًّا ورمزيًّا؟
بطبيعة الحال، نحن لسنا ضدّ التقدّم الحضريّ الذي وصل َحدودًا لا قِبل للبشريّة بها، من حيث التطوُّر العلميّ والتقنيّ، ولكنّ التّقدّم ينبغي ألّا يعني، في المقابل، إهمالَ الأرض، واستنزافَها بوسائل التقدّم عيْنِها.. وما أكثرها وأفتكها هذه الأيّام.
*كاتب من سوريا
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي.