إلا أنّ الممارسة العملية تكشف عن فجوة متزايدة بين النص القانوني والواقع الميداني، حيث أصبح الوصول إلى السكان المدنيين في مناطق النزاع التحدي الأبرز أمام المنظمات الإنسانية، فالمادة «23» من اتفاقية جنيف الرابعة تفرض على الأطراف السماح بحرية مرور الإمدادات الضرورية للمدنيين، والمادة «70» من البروتوكول الإضافي الأول تكرّس الحق في عمليات الإغاثة الإنسانية. مع ذلك، فإن منع وصول المساعدات الإنسانية أو تقييدها يمثل أحد أكثر الانتهاكات شيوعا وخطورة. فمن دون هذا الوصول، يصبح المدنيون تحت رحمة العنف العشوائي أو الممنهج، في خرقٍ صارخ لمبدأ التمييز (المادة 48 من البروتوكول الأول) ومبدأ الإنسانية.
وتتخذ هذه الانتهاكات أشكالاً متعددة: تجميد الحسابات المصرفية للمنظمات الإنسانية بذرائع متعددة، وفرض قيود بيروقراطية وإدارية تحول دون وصول المساعدات، أو حتى استهداف البنية التحتية الأساسية كشبكات المياه والكهرباء، في انتهاك مباشر للمادة «54» من البروتوكول الإضافي الأول التي تحظر مهاجمة الأعيان التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين.
وفي مناطق مثل الساحل الإفريقي، وأجزاء واسعة من إفريقيا جنوب الصحراء، أدى تصاعد نفوذ الجماعات المسلحة إلى خلق «مناطق محظورة الوصول» للمنظمات الإنسانية، وهو ما يتعارض مع الالتزامات الواردة في المادة «18» من البروتوكول الإضافي الثاني التي تُلزم الأطراف بالسماح بعمليات الإغاثة غير المتحيزة. وتشير تقديرات مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية لعام 2023 إلى أن أكثر من 360 مليون شخص حول العالم يقيمون في مناطق يصعب أو يستحيل الوصول إليها.
تُضاف إلى ذلك الانتهاكات المباشرة ضد العاملين في المجالين الإنساني والطبي، وهي جرائم يجرمها القانون الدولي الإنساني بشكل صريح، فالمادة «24» من اتفاقية جنيف الأولى تكفل حماية أفراد الخدمات الطبية في جميع الأحوال، والمادة «71» من البروتوكول الإضافي الأول تؤكد وجوب احترام وحماية العاملين في مجال الإغاثة الإنسانية.
مع ذلك، سجّل عام 2023 مقتل 277 عاملا إنسانيا، وهو رقم تضاعف خلال خمس سنوات فقط، ما يعكس التحدي الخطير لاستمرارية الامتثال لأحكام هذه النصوص.
أما المثال الأكثر مأساوية فيبقى ما يجري في قطاع غزة، حيث شددت إسرائيل حصارها شبه الكامل على القطاع، في مخالفة للمادة «33» من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر العقاب الجماعي. كما أنّ سياسة تجويع السكان تمثل انتهاكا صارخا للمادة «54/1» من البروتوكول الإضافي الأول التي تحظر استخدام التجويع كوسيلة من وسائل الحرب.
إنّ استهداف أكثر من 2.3 مليون مدني بالتجويع، وتدمير البنية التحتية المدنية والطبية على نطاق واسع، يشكل جريمة ضد الإنسانية بموجب المادة «7/2-ب» من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، التي تجرّم تعمّد إخضاع جماعة سكانية لأوضاع معيشية تهدف إلى هلاكها.
ويزداد المشهد تعقيدا مع إدخال أدوات الذكاء الاصطناعي في العمليات العسكرية، كما في برنامج «لافاندر»، الذي يستخدمه الجيش الإسرائيلي لتصنيف سكان غزة وفق احتمالات «التشدد»، هنا تُطرح إشكالات عميقة حول مبدأ المسؤولية الفردية (المادة 25 من نظام روما الأساسي)، ومبدأ السيطرة على القرار العسكري، إذ كيف يمكن محاسبة خوارزمية تُتخذ على أساسها قرارات قد تؤدي إلى قصف مخيمات أو منازل مدنيين؟ وهل يظل القائد العسكري مسؤولا حتى لو كان القرار النهائي مستندا إلى مخرجات الذكاء الاصطناعي؟ هذه الأسئلة تكشف فراغا تشريعيا يتطلب تطوير القانون الدولي الإنساني ليتماشى مع التحديات التكنولوجية الجديدة.
سلوك إسرائيل في غزة يسلّط الضوء على أزمة متنامية في احترام القانون الدولي الإنساني، ويطرح أسئلة وجودية حول شرعية النظام الدولي. فإذا لم تعد الدول التي تُقدِّم نفسها باعتبارها ديمقراطيات ملتزمة بسيادة القانون تحترم التزاماتها القانونية، فما الذي يتبقى من شرعية مؤسسات مثل الأمم المتحدة أو مجلس الأمن أو المحكمة الجنائية الدولية؟!
ما نتعلمه من الحالة في قطاع غزة هو أن القانون الدولي الإنساني، باعتباره أحد الخطوط الفاصلة بين النظم الديمقراطية والأنظمة الشمولية، يتعرض لانتهاك ممنهج ومتكرر. وإذا لم تُواجه هذه الانتهاكات بمساءلة فعّالة وفقا لآليات القانون الدولي (كما نصّت المادة 146 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن الالتزام بملاحقة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة)، فإن «الصحوة» المتأخرة للمجتمع الدولي ستكون قاسية، وربما مدمّرة لمفهوم الشرعية نفسه.