المتتبع لطبيعة الخطاب الدائر في وسائل التواصل الاجتماعي اليوم، سواء في منطقة الخليج العربي أو على مستوى العالم، يلاحظ أنها بمختلف قنواتها وأطيافها وأساليبها باتت تؤدي وظيفة شبيهة بتلك التي كانت تضطلع بها المجالس التقليدية في الماضي، مثل «الديوانيات، والصالونات الأدبية، والأندية الاجتماعية» التي شكّلت لعقود طويلة مطبخًا لصناعة الرأي العام، ومكانًا لتوحيد الكلمة وتعزيز اللحمة الوطنية ونبذ الفرقة. إلا أنّ هناك اختلافًا جوهريًا في طبيعة تلك المجالس القديمة وهيكلتها مقارنة بالمجالس الرقمية الحديثة. فبينما كانت المجالس التقليدية تقوم على أسس من التراتبية الاجتماعية والعلاقات الشخصية، وتخضع لأعراف تضبط إيقاع الحديث وحدود النقد ومستوى الطرح، أصبحت المجالس الرقمية فضاءً مفتوحًا للجميع، لا تعترف بالهويات أو المناصب أو المكانة الاجتماعية، ولا تحدّها اعتبارات جغرافية أو زمانية. تحولت الحوارات الرقمية إلى مساحة أكثر تنوعًا وجرأة وشمولًا، تطرح القضايا العامة بلغة عصرية وسريعة التأثير، وتخاطب العقول بأسلوب مباشر وسهل الانتشار. ومع ذلك، يلاحظ أن بعض هذه النقاشات تفتقر إلى العمق والموضوعية، وتميل إلى السطحية أو الانفعال العاطفي، ما يؤدي أحيانًا إلى تشويش الرأي العام أو تضليله، خصوصًا مع انتشار الحسابات المجهولة أو الوهمية التي تعمل على إثارة الفتنة والتشكيك. وشهدنا في السنوات الأخيرة حملات رقمية حاولت النيل من مواقف دول الخليج، والتشكيك في دورها الفاعل تجاه قضايا عربية محورية، مثل القضية الفلسطينية والأزمة السورية وغيرها، إلا أن الواقع أثبت عكس ذلك تمامًا. فقد كانت دول الخليج، وفي مقدمتها السعودية، في طليعة المدافعين عن هذه القضايا العادلة، ما يؤكد أن كثيرًا من الحملات الرقمية لم تكن سوى أدوات للتشويش والتضليل وخلق البلبلة في الرأي العام الخليجي. ورغم التحديات، تبقى الحقيقة أن المجالس الرقمية تمثل امتدادًا طبيعيًا لثقافة الحوار المتجذرة في المجتمع الخليجي، وإن اختلفت الوسائل والأدوات. فكلا النوعين التقليدي والرقمي يسهم في تشكيل الرأي العام وصياغة الاتجاهات الاجتماعية، لكن الفارق أن الفضاء الرقمي جعل هذا الرأي أكثر ديناميكية وسرعة وتأثيرًا. ففي الماضي، كان الرأي يتشكل ببطء داخل المجالس، ضمن نطاق محدود يسوده الاحترام والرغبة في تقديم الحلول وتعزيز وحدة الصف. أما اليوم، فإن المعلومة تنتشر في ثوانٍ معدودة عبر منصات التواصل، وتؤدي أحيانًا إلى تضخيم الخلافات وبث الكراهية والانقسام، ما يجعل ردود الفعل أكثر حدّة وأقلّ اتزانًا، خاصة عندما تغيب الموضوعية والتحقق من المصادر. هذا الواقع الجديد يفرض علينا ضرورة تعزيز الوعي الرقمي، ونقل قيم ومبادئ المجالس التقليدية من مسؤولية واحترام وتوازن في الطرح إلى هذا الفضاء المفتوح والفوضوي الذي أصبح متاحًا للجميع دون قيود. فالمجالس الرقمية اليوم ليست مجرد وسيلة تواصل، بل هي رافد رئيس لصناعة الرأي العام، وأحد أبرز مظاهر التحول الاجتماعي والثقافي في المنطقة. ولذلك، فإن مأسسة هذا الفضاء وتنظيمه باتت مطلبًا ضروريًا للحفاظ على مصداقيته، وضمان أن يظل أداة بناء وتنوير، لا وسيلة فوضى أو تضليل.