لم يكن هذا الرجل مجرد وزير في بلاط سلطان، بل كان رأس الحكمة وعقل الدولة النابض، العقل الذي يخطط، والقلب الذي يؤمن، واليد التي تبني، والروح التي تبعث الحياة في مشروع حضاري متكامل.
وُلد نظام الملك عام 408 هـ (1018م) في رحاب طوس بخراسان، تلك الأرض التي أخرجت للعالم أجمع أعلامًا شهدت لهم المنابر.
نشأ في بيت علم ودين، فتشرب حب القرآن والفقه والأدب، وتخلق بأخلاق العلماء، بدأ حياته كاتبًا مغمورًا، لكن بريق فطنته وحكمته النادرتين كانتا أسطع من أن يبقيا في الظل، فلفتت أنظار السلطان السلجوقي، ألب أرسلان، الذي رأى فيه ما هو أبعد من مجرد موظف كفؤ، لقد أبصر فيه مهندسًا لإمبراطورية، فعهد إليه بالوزارة، ليصبح الرجل الذي سيحمل على عاتقه مصير دولة تمتد من أقاصي بلاد ما وراء النهر إلى شواطئ الأناضول.
كان نظام الملك تجسيدًا لنقلة تاريخية حضارية، فقبل مجيئه، كان العالم الإسلامي يعاني من التشرذم والضعف، مع خلافة عباسية أصبحت رمزية تفتقر إلى السلطة الفعلية.
لقد ورث نظام الملك دولة كانت في جوهرها «اتحادًا قبليًا عسكريًا» للسلاجقة الأتراك، قوة جبارة تفتقر إلى فن الحكم المؤسسي، وهنا تجلت عبقريته كمهندس إداري؛ فحوّلها بصبر وأناة إلى «إمبراطورية مؤسسية» حديثة.
لم تكن مهمته سهلة، فقد كان عليه أن يقنع أمراء الحرب بأن قوة الدولة لا تكمن في السلب والنهب، بل في النظام والعدل والاستقرار، فأنشأ الدواوين لتسجيل كل شاردة وواردة، ونظّم الضرائب فخفف العبء عن الفلاحين وزادت خزائن الدولة، وثبّت رواتب الجند فقطع الطريق على تمردهم، لقد بنى الهيكل العظمي لدولة القانون، حيث لا شيء يتم بالهوى أو العبث، بل كل شيء يسير وفق نظام دقيق محكم.
وحتى نفهم عظمة الإنجاز، يجب أن ندرك طبيعة العلاقة المعقدة في ذلك الزمان، الخليفة العباسي يمثل السلطة الروحية والشرعية للعالم السني، رمز وحدة الأمة، لكنه كان ضعيفًا عسكريًا وسياسيًا، والسلطان السلجوقي «ألب أرسلان» يمثل السلطة الفعلية «الدنيوية»، القوة العسكرية والسياسية الحقيقية.
كانت المعضلة الكبرى هي كيفية دمج هاتين السلطتين في نظام واحد يحفظ لكل طرف مكانته، ويضمن استقرار الدولة، وهنا برزت عبقرية نظام الملك، الذي أدار هذه العلاقة الحساسة من خلال عدة محاور رئيسية، حيث أدرك نظام الملك أن السلاجقة كقوة جديدة تحتاج إلى«شرعية» لحكمهم في قلب العالم الإسلامي، فحرص على أن يُظهر السلطان كل مظاهر التبجيل للخليفة.
وتفاوض ليحصل على منح الخليفة للسلطان الألقاب الرسمية، مثل «سلطان المشرق والمغرب»، التي كانت بمثابة «تفويض شرعي» للسلطان لحكم البلاد، وروّج لفكرة أن السلاجقة هم «سيف الإسلام» وحماة الخلافة السنية.
وعزز إدارة التناقضات بنسج أواصر الدم، حيث قام بترتيب المصاهرات التاريخية بين البيتين السلجوقي والعباسي، حيث قام بتزويج ابنة ألب أرسلان من الخليفة القائم بأمر الله، ثم تزويج ابنة ملكشاه من الخليفة المقتدي، فنسج بذلك روابط دم وقرابة دمجت مصير آل سلجوق بمصير الخلافة.
لكنه لم يكتفِ بالهيكل المادي، بل أراد أن يضخ فيه «روحًا» كمؤسس فكري، أدرك ببصيرة نافذة أن استقرار الدولة لا يأتي من قوة الجيش فقط، بل من وحدة الفكر وهوية الأمة، فكان مشروعه الخالد، المدارس النظامية، هو «عقل الدولة» الذي سيواجه الفوضى الفكرية ويُخرّج كوادر موالية للدولة.
كانت هذه المدارس تحفته الكبرى، لم تكن مجرد أماكن للتعليم، بل كانت «مصانع للعقول» وبيئات متكاملة للحياة الفكرية، تخيل تلك المشاهد: مبانٍ أنيقة في قلب بغداد ونيسابور وأصفهان، لكل منها مكتبة عامرة بالنفائس، وسكن للطلاب، ورواتب شهرية تكفيهم مؤونة السؤال، لقد جعل طلب العلم مهنة شريفة ومكرمة، لا ترفًا للأغنياء.
لم يكن نظام الملك منفذًا أعمى، بل كان فيلسوفًا سياسيًا صاحب رؤية.
كتابه الشهير «سياست نامه» «سير الملوك» ليس مجرد نصائح، بل هو دستور عملي للحكم الرشيد، يقدم نظرية واقعية في فن الحكم. لقد جسد فيه مقولته الخالدة: «الملك يبقى مع الكفر، ولا يبقى مع الظلم».
إن أعظم شهادة على عبقرية نظام الملك أنه لم يبْنِ لدولته فحسب، بل كان مهندسًا للحقبة التاريخية بأكملها التي تلته.
لقد وضع الأسس التي مهدت لظهور عمالقة التاريخ الإسلامي اللاحق مثل: أبو حامد الغزالي، «حجة الإسلام»، الذي هزت أفكاره العالم، والجويني إمام الحرمين، وأبو إسحاق الشيرازي، الفقيه الكبير، وعبدالقادر الجيلاني، الإمام الصوفي الذي ألهم الملايين، كما أسس لنظرية الدولة التي جمعت بين السلطتين الروحية والزمنية وأصبحت النموذج الذي سار عليه من جاء بعده.
في ليلة من ليالي رمضان عام 485 هـ (1092م)، امتدت إليه يد الغدر من طائفة الحشاشين، ليسقط الوزير العظيم، لكن إرثه لم يرحل، لقد كان المهندس الذي صمم وبنى القلعة الفكرية والإدارية التي حمت العالم الإسلامي لقرون.
بل يمكننا القول إن نظام الملك كان الحلقة الذهبية في سلسلة البناء الحضاري التي وصلت ذروتها بعماد الدين زنكي، ونور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي.
لقد زرع البذرة التي أثمرت شجرة النصر في حطين، وأسس المنهج الذي أطاح بالدولة الفاطمية، ووضع الأسس التي قامت عليها دولة الإسلام الموحدة.
لم يكن مجرد وزير عظيم، بل كان رأس الحكمة في عصر بأكمله، ورجلاً أثبت أن أعظم قوة ليست في السيف، بل في العقل الذي يخطط، والرؤية التي تستشرف المستقبل، والإرادة التي تبني الحضارات.