من القراء جاءتني أفكار كثيرة، ورسائل أكثر، بعضها شكر، وبعضها اعتراض، وكلها كانت تمدني بطاقة جديدة للمواصلة، ودائمًا كنت أقول لنفسي: إن الكاتب الحقيقي لا يكتب وحده؛ إنما يكتب ومعه جمهوره الذي يُذكره حين ينسى، ويصحح له حين يزل، ويحتفي به حين يُصيب، وكانت صفحة الرأي بالنسبة لي ساحة فكرية متنوعة، أكتب فيها ما أراه نافعًا للناس، وأستفيد من تعقيبات المحررين، وملاحظات القراء، وحرص الإدارة على أن تبقى الكلمة مسؤولة متزنة، بعيدة عن الانفعال، ومع كل مقال جديد كنتُ أشعر أن المقال ليس «روتينًا» أسبوعيًا، بل أمانة تُكتب لتبقى.
في بعض الدول يكسر القاضي «سن قلمه» بعد إصدار حكمه بالإعدام، والبعض يرجعه إلى حزن القاضي، أو أن حياة المتهم قد انتهت، أو أن الحكم لا رجعة فيه، أو وسيلة لتخليص نفسه من الذنب؛ أنا اليوم لن أكسر قلمي، ولكني سأتوقف عن الركض هنا؛ معتقدًا أن التوقف «فن» لا يتقنه إلا من يبحث عن التوازن، والتقاط الأنفاس.. اليوم أصل إلى اللحظة التي أضع فيها نقطة الوداع على سطرٍ جميل من سطور تجربتي في «الوطن» الغالية، ولا أقول وداعًا لـ»الوطن»، ولا أظن أن الخروج منها فراق لها، بل هو تغيير أستعيد به وهج الكتابة، ودهشتها.
الآن، وأنا ألملم أطراف المقال رقم 804، أجد لزامًا علي أن أترك للقراء الكرام وصية من محب صادق لهم جميعًا، وهي ألا تجعلوا من الكلمة مطية للخصومة، بل اجعلوها جسرًا للعبور بين العقول، واللهَ الله في الحفاظ على لحمة الوطن الكبير، «المملكة العربية السعودية»، وعدم السماح لأي أحد بأن يعكر صفوه، أو يؤثر على وحدته، أو يشكك في ثوابته، وعليكم أن تفتخروا ببلدكم، التي ما فتئ قادتها عن تقديم كل ممكن من أجل إسعادكم، وتجنبيكم كل ما يمكن أن ينغص عليكم، وبالله عليكم تفاءلوا دائمًا، ولا تجعلوا للإحباط عليكم سبيلا.
أختم بأني طوال هذه الرحلة الجميلة للكتابة في «الوطن» تعرفتُ على وجوه كريمة من رؤساء تحرير، ومحررين، ومصممين، وزملاء قلمٍ جمعني بهم هم الكلمة الصادقة؛ لكل واحد منهم امتنان خاص، وشكر خالص، فقد كانوا شركاء في رحلة طويلة احترمتُ فيها اختلاف الرأي، وتعلمتُ منها أن التنوع لا يُضعف الصحيفة بل يُغنيها؛ وإذا كانت هذه المقالة «نقطة آخر السطر»؛ فإنني أراها في الوقت ذاته حرفًا ممتدًا في فصل جديد مع رحلة لن تتوقف بحول الله؛ فللكتابة سحر ونشوة، ولردات الأفعال مذاق جميل، حتى لو صدمك مَن فهم كلامك على عكس مرادك؛ وبحول الله سأترك -كما يقال- اللعب، ولكني لن أترك الملعب، هكذا أرجو ربي -سبحانه وتعالى، الذي أمرني على لسان حبيبه، صلوات ربي وسلامه عليه: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها»، والكتابة غرس جميل.. وداعًا لـ»الوطن» الصحيفة، ووداعًا للقائمين عليها؛ أما القراء الكرام فالعهد بيننا «غرس الفسيلة».