ترجمة / المدى
بينما بدأ وقفُ إطلاقِ نارٍ هشٍّ يسود في غزة هذا الشهر، شنّت إسرائيل المزيد من الغارات الجوية على جنوب لبنان — بعد مرور أحد عشر شهرًا على وقف إطلاق النار هناك. استهدفت الغارات شركةً تعمل في مجال معدات البناء، ما أدى إلى مقتل سوريٍّ كان يمر بالمكان، وإصابة سبعة أشخاصٍ بينهم امرأتان، وتدمير معدات تُقدَّر قيمتها بملايين الدولارات من الجرافات والحفارات. في معظم الدول التي لا تعيش حالة حرب، يُعَدّ مثل هذا الهجوم استثناءً، لكن في لبنان أصبحت الهجمات الإسرائيلية شبه اليومية أمرًا معتادًا — بعد ما يقرب من عامٍ على الهدنة التي توسّطت فيها الولايات المتحدة وأنهت آخر مواجهة بين إسرائيل وحزب الله.
يرى بعض المراقبين أن ما يحدث في لبنان قد يشكّل نموذجًا محتملًا لوقف إطلاق النار في غزة، مع استمرار الصراع ولكن بوتيرةٍ أقل. ففي يوم الأحد، شنّت إسرائيل غارةً على غزة بعد أن قالت إن حركة حماس أطلقت النار على قواتها، في أول اختبارٍ كبيرٍ للهدنة التي توسّطت فيها واشنطن. منى يعقوبيان، مديرة برنامج الشرق الأوسط لدى مركز أبحاث الدراسات الدولية والاستراتيجية، وصفت السيناريو الحالي في لبنان على أنه «نار أقل» أكثر مما هو وقفٌ لإطلاق النار. وقالت إن لبنان قد يكون «نموذجًا لغزة، بحيث يُمنح الجيش الإسرائيلي حرية توجيه ضرباتٍ متى رأى تهديدًا، دون العودة إلى حربٍ شاملة».
وقف إطلاق النار بلا آلية واضحة للتنفيذ
بدأت آخر مواجهة بين إسرائيل وحزب الله في اليوم التالي لهجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، والذي فجّر الحرب في غزة. فقام حزب الله، المتمركز أساسًا في جنوب لبنان، بإطلاق الصواريخ على إسرائيل دعمًا لحماس والفلسطينيين، فردّت إسرائيل بضرباتٍ جويةٍ وقصفٍ مدفعي، ليتفاقم الصراع منخفض الحدة إلى حربٍ شاملةٍ في أيلول/ سبتمبر 2024.
نصّ اتفاق وقف إطلاق النار في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 على أن توقف لبنان الهجمات من جانب الجماعات المسلحة، وأن توقف إسرائيل العمليات العسكرية الهجومية في لبنان. كما سمح للطرفين بالتحرك «دفاعًا عن النفس»، دون تحديد التفاصيل.
ويحق للطرفين الإبلاغ عن الانتهاكات للجنة مراقبة تضم الولايات المتحدة وفرنسا وإسرائيل ولبنان وقوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في لبنان (اليونيفيل)، لكن الاتفاق كان غامضًا بشأن آليات التنفيذ.
عمليًا، تولّت إسرائيل مهمة «التنفيذ بنفسها»، زاعمةً أن ضرباتها تستهدف مقاتلي حزب الله ومنشآته ومخازن أسلحته.
وتقول إسرائيل إنها تسعى لمنع الحزب — الذي أُنهك بشدة — من إعادة بناء قدراته. في المقابل، تقول السلطات اللبنانية إن تلك الهجمات تعرقل جهودها لإقناع حزب الله بالتخلي عن سلاحه، لأنها تمنحه مبررًا للاحتفاظ به.
وتضيف أن الضربات الإسرائيلية، مثل غارة 11 أكتوبر/ تشرين الأول، كثيرًا ما تُصيب مدنيين وتدمّر بنى تحتية لا علاقة لها بحزب الله.
وبحسب وزارة الصحة اللبنانية، أسفرت الهجمات الإسرائيلية منذ وقف إطلاق النار عن مقتل أكثر من 270 شخصًا وإصابة نحو 850. ووفق مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان حتى 9 أكتوبر/ تشرين الأول، تم التحقق من أن 107 من القتلى كانوا مدنيين أو غير مقاتلين، بحسب المتحدث ثمين الخيطان.
ولم يُقتل أيّ إسرائيلي بنيرانٍ قادمةٍ من لبنان منذ وقف إطلاق النار.
منذ 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 وحتى منتصف أكتوبر/ تشرين الأول 2025، رصدت اليونيفيل نحو 950 قذيفةً أطلقتها إسرائيل على لبنان، و100 غارةٍ جوية، مقابل 21 قذيفةً فقط أُطلقت من لبنان باتجاه إسرائيل، وأعلن حزب الله مسؤوليته عن هجومٍ واحدٍ فقط منذ الهدنة.
روايات متضاربة
بعد غارات 11 أكتوبر/ تشرين الأول في منطقة المُسَيْلية، قالت إسرائيل إنها استهدفت «معداتٍ هندسيةٍ مخصصةٍ لإعادة بناء بنى تحتيةٍ إرهابيةٍ في جنوب لبنان». لكن السلطات اللبنانية وحزب الله وصاحب الشركة نفوا ذلك.
مالك الشركة، أحمد طباجة، قال في تصريحاتٍ للصحفيين: «كل فردٍ في لبنان، ومن مختلف الطوائف، يأتون للتبضّع منا. ما الخطأ الذي فعلناه؟».
وصف الرئيس اللبناني جوزيف عون الغارات بأنها «عدوانٌ سافرٌ على منشآتٍ مدنية»، واتهم رئيس البرلمان نبيه بري إسرائيل بالسعي إلى منع إعادة إعمار المناطق المتضررة. وقدّمت الحكومة اللبنانية شكوى إلى مجلس الأمن الدولي.
بعد أيام، استهدفت إسرائيل مصنعَ إسمنتٍ ومقلعَ حجارة، زاعمةً أن حزب الله يعتزم استخدامهما لإعادة بناء منشآته. وفي الشهر الماضي، أصابت ضربةٌ إسرائيليةٌ دراجةً ناريةً وسيارةً تقل عائلةً في بنت جبيل، فقتلت شادي شرارة، وهو بائع سيارات، وثلاثةً من أطفاله — من بينهم توأمان يبلغان ثمانية عشر شهرًا — وسائق الدراجة، وأصابت زوجته وابنته الكبرى بجروحٍ خطيرة. كانت هذه إحدى أعنف الهجمات منذ وقف إطلاق النار وأثارت غضبًا واسعًا بسبب مقتل الأطفال.
قالت شقيقته أمينة شرارة: «أخي مدني، وأطفاله وزوجته مدنيون، ولا علاقة لهم بالسياسة».
مخاوف من انفجار سياسي وعسكري
في الوقت الذي يحاول فيه لبنان تفادي الانزلاق نحو مواجهةٍ جديدةٍ مع إسرائيل، أثارت تصريحات المبعوث الأميركي توم براك موجةً من القلق حول خطورة الجمود السياسي القائم واحتمال تحوّل الهشاشة الأمنية إلى مواجهةٍ عسكريةٍ واسعة.
وفي منشورٍ مطوّلٍ على منصة «إكس»، حذّر براك من أن فشل لبنان في نزع سلاح حزب الله قد يدفع إسرائيل إلى تحرّكٍ عسكريٍّ أحادي، معتبرًا أن العواقب ستكون «خطيرةً للغاية». وأضاف أن الجناح العسكري للحزب سيكون في مواجهةٍ كبرى مع إسرائيل في «لحظةِ قوةِ إسرائيل وضعفِ الحزبِ المدعومِ من إيران»، في حين سيواجه جناحه السياسي عزلةً محتملةً مع اقتراب انتخابات عام 2026.
وفيما يتعلق بالانتخابات، حذّر براك من أن أيّ تأجيلٍ قد يشعل فتيل فوضى عارمة ويزيد من تفكك نظامٍ سياسيٍّ هشٍّ أصلًا، مؤكّدًا أن العديد من الفصائل اللبنانية ستعتبر هذا التأجيل محاولةً لتمكين حزب الله من ترسيخ سيطرته وتجنّب المحاسبة على دمار الحرب.
وشدّد براك على أن التعاون ليس ضمانًا للسلام، لكنه الطريق الوحيد نحو تفادي الانزلاق إلى مواجهةٍ مفتوحة، في وقتٍ يصل فيه السفير الأميركي الجديد ميشال عيسىَ إلى بيروت الشهر المقبل لدعم جهود البلاد في معالجة هذه القضايا المعقدة.
وفي الوقت نفسه، شنّت إسرائيل أمس الاثنين غاراتٍ على مناطق متفرقةٍ من جنوب لبنان، في خطوةٍ تثير مخاوف من تصعيدٍ محتملٍ في مواجهة حزب الله، بالتزامن مع تصعيد التحذيرات الأميركية.
عن وكالاتٍ عالمية