القراءة، في معناها الأصيل، ليست تكديسًا للكلمات، بل تفاعلٌ مع الحياة من خلال النصوص. لكنها في زمن السرعة والمقارنات أصبحت عند البعض سباقًا للكمّ لا للكيف. نقرأ كي لا نتأخر، لا لأننا نرغب. نقرأ كي يُقال علينا مثقفون، لا لأننا نسعى للعمق. وهنا تبدأ أولى السلبيات: التشتت المعرفي، ذلك التشتت الذي يجعل القارئ يعرف شيئًا عن كل شيء، لكنه لا يتقن شيئًا بصدق.
ثم تأتي الانتقائية النفسية، حيث ينجذب القارئ فقط لما يؤكد أفكاره، لا لما يختبرها، فيتحول فعل القراءة من حوار مع الآخر إلى مرآة نرجسية، يرى فيها ذاته فقط. يقرأ ليُثبت، لا ليتغير. وهذه أخطر مراحل الركود العقلي؛ أن تستخدم المعرفة لتبرير نفسك لا لتطويرها.
ومع الوقت، تتحول كثرة القراءة إلى إرهاق ذهني. كأن الذهن يعيش حالة تخمة معرفية تشبه تخمة الجسد بعد وليمة دسمة. كثرة المعلومات دون مساحة تأمل تُرهق الجهاز العصبي، وتفقد الإنسان متعة «الفراغ الذهني» الذي تُزهر فيه الأفكار الجديدة. القارئ المتعب من القراءة يفقد أحيانًا حسّ الحياة البسيط، فينظر لكل شيء عبر منظار تحليلي جامد، فيعيش في رأسه أكثر مما يعيش في واقعه.
أما الخطر الرابع فهو الاغتراب النفسي، فالقارئ كثيرًا ما يجد نفسه في صدام مع بيئته التي لا تشاركه مرجعياته الفكرية، فيغدو محاطًا بالناس، لكنه منفصل عنهم. كل فكرة قرأها تُبعده خطوة عن البساطة التي يعيشها الآخرون. يعيش حالة «وعي زائد»، تجعله يرى التشققات في كل شيء – في العلاقات، في العمل، في المجتمع – فيُصاب بما يمكن أن نسميه «قلق الوعي».. أن تعرف أكثر مما ينبغي، فتتعب أكثر مما يُحتمل.
ثم هناك التسطيح العاطفي، فالقارئ الذي يستهلك الأدب والفكر بكثرة يفقد أحيانًا حسّ الدهشة الأولى. كل نص يشبه الآخر، كل شعورٍ صار يمكن تحليله وتفكيكه، فلا يعود يعيش المشاعر ببراءتها. القراءة الكثيفة تُحوّل القلب من مرآة إلى مختبر، ومن مستمعٍ إلى محلّل.
ولا يمكن إغفال وهم السيطرة الذي تمنحه القراءة، إذ يتسلل إلى القارئ شعور بأنه يفهم العالم أكثر من غيره، وأن الناس من حوله «لا يرون ما يرى»، وهذا الإحساس المبطّن بالتفوق المعرفي هو الفخ الأكبر؛ لأنه يولّد عزلة ناعمة وتكبرًا خفيًا باسم الثقافة. في حين أن جوهر القراءة هو التواضع أمام حجم المجهول، لا الادعاء بامتلاك الحقيقة.
في النهاية، ليست المشكلة في القراءة نفسها، بل في طريقة تعاملنا معها. القراءة التي لا تُترجم إلى وعي وسكينة، تتحول إلى ضجيج داخلي، والقراءة التي لا تُلامس الحياة، تبقى فكرةً عالقة بين الورق والخيال.
القراءة الحقيقية تُنضجك لا تُتعبك، تُنيرك لا تُثقلك. لكن حين تنقلب العلاقة، حين تَحِلّ «الصفحات» محلّ التجربة، يتحول القارئ إلى مراقب صامت للحياة بدل أن يكون مشاركًا فيها.
ربما كانت أخطر سلبيات القراءة، في زمننا، أنها تُبعدنا عن العالم بذريعة فهمه. نقرأ عن الحياة أكثر مما نعيشها، ونُفسّر المشاعر بدل أن نُحسّها. والنتيجة؟ جيلٌ يعرف الكثير عن كل شيء، لكنه يعيش القليل من أي شيء.