ومع ذلك فمن المحقق أن الكاتبين لم يتفقا على موضوع القصتين، ولم يأخذ أحدهما عن صاحبه. ومن المحقق أيضًا أن جمهور النظارة في باريس أحب القصتين، وأعجب بهما وضمن لهما حظًا غير قليل من الفوز والبقاء.
فتوارد الخواطر هذا وإعجاب الجمهور بنتيجته خليق أن يدعو إلى شيء من التفكير، ذلك أنه إذا كان من الحق أن لكل شيء سببًا، وأن حادثة لا تقع إلا وقد سبقتها علة دعت إلى وقوعها، فلا بد من أن يكون هناك سبب دعا إلى هذا التوافق بين الكاتبين، وإلى أن يعجب الجمهور بقصتهما إعجابًا متقاربًا، وهذا السبب هو فيما أظن الذوق العام وما يختلف عليه من ألوان التطور.
كثيرًا ما نسأل أنفسنا: أيهما أشد تأثيرًا في صاحبه؟ هو صاحب الفن يبتكر من آياته الفنية ما يخلب الناس ويستهويهم فتوثر في حياتهم العقلية والشعرية ويسيرهم كما يريد أم هو الجمهور تؤثر فيه الظروف المختلفة، فتكون مزاجه وذوقه تكوينًا خاصًا ويقوى هذا الذوق وذلك المزاج حتى يتشخصا في الكاتب أو الشاعر أو المصور أو المثال، فإذا هو ترجمان يعرب عن نفس هذا الجمهور ومرآة تعكس ذوقه ومزاجه الظروف المختلفة، فتكون مزاجه وذوقه تكوينًا خاصًا ويقوى هذا الذوق وذلك المزاج حتى يتشخصا في الكاتب أو الشاعر أو المصور أو المثال، فإذا هو ترجمان يعرب عن نفس هذا الجهور ومرآة يعكس ذوقه ومزاجه؟
فأما حين يكون الكاتب مبتكرًا يؤثر في الجمهور غالبًا إياه على أمره، فإنما يعجب الجمهور به لأنه غريب قد ظهر قويًا أقوى من الجمهور، فالجمهور يذعن له ويؤمن بقوته ويعجب بآثاره كما يعجب بآثار القوي بعد أن يجاهده ويصارعه ويمتنع عليه فلا يجد سبيلا إلى المقاومة، فيضار إلى الإذعان والخضوع. وأما حين يكون الكاتب أو الشاعر ترجمان الجمهور ومرآته فالجمهور لا يعجب بالكاتب أو الشاعر وإنما يعجب بنفسه، يعجب بصورته التي يراها في المرآة.
ومن الواضح أن الكاتب أو الشاعر الذي يكره الجمهور على ما يريد ويغتصب إعجابه اغتصابًا ويرسم له طريقه العقلية والشعورية هو الكاتب أو الشاعر الخليق بالبقاء حقًا، ومن الواضح أن هذا الكاتب أو الشاعر لا يتاح للناس.
إلا قليلا في أوقات متقطعة فإن وجد فهو ثقيل على الجمهور بغيض إليه، وربما لم يظفر بحقه من الطاعة والرضا والإعجاب إلا بعد موته بزمن يقصر أو يطول.
ومن الواضح أن الكاتب أو الشاعر الذى تكون آثاره الفنية صدى أنفس بيئته ليس غير هو الذى يستأثر بالرضا والاعجاب ويستمتع بلذتهما في حياته ولكنه لا يكاد يدع هذه الحياة حتى ينساه الذين كانوا يعجبون به، وكل هذا واضح أيضًا ولكن المسألة التي لا تزال غامضة هي الصلة بين الكتاب والشعراء، وبين الذين يقرؤون آثارهم أو يسعون لها هذه الصلة التي تجعل بعضهم محبًا إلى الناس، وتجعل بعضهم الآخر بغيضًا وتطيل أمد هذا الحب والبغض أو تقصره وهى الذوق فما هو؟ ومن أين يأتي؟ وإلى أي غاية ينتهي؟ وما المؤثرات المختلفة التي تكونه؟ أهو عقل خالص قواه البحث والنقد والتقدير والحكم؟ كلا. فلو كان الذوق كله عقلا لضاعت آيات فنية خالدة ولما استطاع هذا الجيل أن يعجب بكبار الشعراء والخالدين من أصحاب الفن. ومع ذلك فقد كان أفلاطون يمقت هوميروس وشعره ويحظر درس هذا الشعر في مدينته الفاضلة، ولكنه على ذلك كان يستشهد به ويستخلص منه حكمًا لا تفنى. أهو شعور خالص قوامه الحس والتأثر والانفعال الذاتي الذي لا رؤية فيه ولا اختيار؟ كلا.
فلو كان كذلك لضاعت آثار كبار الشعراء والخالدين من أصحاب الفن. والمثل الذى قدمناه نفسه يدل على هذا أيضًا فلم يكن أفلاطون يصدر عن شعوره وانفعاله السريع الذي لا رؤية فيه حين كان يستشهد بأبيات هوميروس وإنما كان يصدر عن عقله الفلسفي وعن حكمه وتقديره.
1929*
* أديب وناقد مصري ( 1889 – 1973)