الصحافة ليست مجرد مهنة، بل رحلة مليئة بالتقلبات، فيها مدّ وجزر، هدوءٌ تارة وعواصف تارة أخرى. كالبحر: أحيانًا تهبّ نسائمها الباردة اللطيفة، وأحيانًا تلفحك رياحها الحارة القاسية. تُبحر فيها نحو الاتجاه الذي تختاره، لكنّك كثيرًا ما تجد نفسك مدفوعًا بعكس التيار. ومن أكثر ما يصعب في هذه المهنة أن تُرضي أحدًا، حتى نفسك!
بعد خمسة عشر عامًا من العمل في الصحافة، يبقى السؤال نفسه يطارد الكاتب: لماذا تستمر؟ ماذا منحتك الكتابة، وماذا أخذت منك؟
حين بدأت المقال بالمثل الأمريكي، لم يكن ذلك صدفة. فكلما تعمقت في الصحافة، وجدت أن هذا المثل ينطبق عليها بشكل مذهل. إذ قد يتفهّم الكاتب غضب بعض الجهات حين ينتقد أداءها، لكن الغرابة أن يغضب البعض الآخر حتى عندما تكتب ما يوافق فكرهم أو يصب في مصلحتهم! وهنا تبدأ المفارقات.
فعندما تطرح أفكارًا أو مقترحات بنّاءة، تتوقع أن تلقى الترحيب، أو على الأقل سابقًا الشكر. لكن الواقع مختلف، فبدل الشكر، تأتيك علامات الضيق. وتعود الأسباب إلى حالات ثلاث:
الخوف من الظهور تابعًا للإعلام: فبعض المسؤولين يتفقون ضمنيًا مع ما تطرحه، لكنهم يؤجلون تبنّي الفكرة كي لا يُقال إنهم استجابوا لما نُشر في الصحافة.
التنافس مع الاستشاريين: قد يكون أحدهم قد دفع مبالغ ضخمة لشركة استشارية لإعداد خطة أو استراتيجية، ثم تأتي أنت وتطرح الحلول ذاتها مجانًا، فيغضب لأنك أفقدته بريق «العقد الدولي» الذي أراد التفاخر به.
الرغبة في الانفراد بالنجومية: يخشى البعض أن يُقال لاحقًا إنهم تبنّوا ما كتب الصحفي، فيسعون لتغيير المظهر الخارجي للأفكار كي لا تبدو منقولة، فقط ليظلوا نجوم المشهد وحدهم.
لذلك، فإن الكاتب الصحفي يشبه خبز الشعير: مفيد وصحي، لكنه قليل المديح، كثير اللوم!
أما عندما ينتقد الكاتب جهة ما، فهنا تبدأ مرحلة أخرى من الصراع، لا تقل تعقيدًا عن سابقتها. من الطبيعي أن تدافع الجهات عن نفسها، فهذا حقها، لكن طريقة الرد هي ما تصنع الفارق:
الرد المهني المحترم: وهو النموذج المثالي، حين تتواصل الجهة مع الكاتب لتوضيح الحقائق وتقديم البيانات التي قد تكون غائبة عنه. هكذا تُبنى الثقة ويُخدم الرأي العام.
الرد القانوني المفرط: بعض الجهات تظن أن الحل في تفعيل القسم القانوني عند كل ملاحظة، فيتحول النقد إلى قضية، والجملة إلى «اتهام». يلاحقون الكاتب في اللجان والمحاكم، مع علمهم أنهم سيخسرون القضية، لكن الهدف إزعاجه وإسكاته حتى لا يعيدها لاحقًا.
الرد الشخصي: وهو الأسوأ، حين تتحول المسألة من نقدٍ مهني إلى هجوم شخصي، عبر العلاقات أو شركات العلاقات العامة التي تُوجَّه للهجوم على حسابات الكاتب وتشويه صورته.
وهكذا، يبقى الكاتب الصحفي في معركة لا تنتهي: إن كتب أُسيء فهمه، وإن سكت اتُهم بالتقصير، وإن أنصف أحدهم وُصف بالمحاباة. لكن رغم كل ذلك، يظلّ القلم صادقًا في ميدانه، لا يكتب ليُرضي، بل ليقول الحقيقة مهما كانت مُتعبة، ومهما كان البحر هائجًا.
السؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق: لماذا تستمر في الكتابة رغم كل ما يحيط بها من تعقيدات، حساسيات، وتحديات؟
سألت نفسي هذا السؤال كثيرًا، خاصة في الأوقات التي حدثتني فيها نفسي بالتوقف، ووجدت أن هناك ثلاثة أسباب جوهرية تجعلني أستمر.
أولًا: لأنني أكتب في مجالات لا يطرقها الكثيرون،
غالبًا ما أتجه إلى تناول موضوعات فكرية، إستراتيجية، ومستقبلية ترتبط بمسار التنمية الوطنية، لكنها نادرًا ما تجد من يتناولها بعمق. أحاول من خلال ذلك أن أطرح الأفكار لا الأشخاص، وأن أُسهم في الحوار حول مستقبل البلد واتجاهاته، لا حول تفاصيل الأحداث اليومية.
في عالمٍ شرق أوسطي تُهيمن عليه النقاشات الشخصية، تذكّرني دائمًا مقولة إلينور روزفلت:
«العقول الكبيرة تناقش الأفكار، والعقول المتوسطة تناقش الأحداث، والعقول الصغيرة تناقش الأشخاص».
وهي مقولة أحاول أن أجعلها بوصلة في كل ما أكتب.
ثانيًا: لأن أثر الكلمة لا يضيع، وإن تأخر صداه.
في كل مرة أشعر فيها بالملل أو بالفتور، يظهر أحد القراء أو العاملين في أحد الجهات عبر مكالمة، رسالة، أو لقاء عابر أو عبر التواصل الاجتماعي، ليعبّر عن امتنانه أو ليروي كيف أثّر أحد المقالات أو الاقتراحات في عمله أو في توجه معين داخل مؤسسته. هذه اللحظات تُعيد إليّ الإيمان بأن ما يُكتب لا يذهب سدى، وأن الهدف الأسمى هو خدمة الوطن، لا انتظار شكرٍ أو تقديرٍ من أحد.
ثالثًا: لأن هناك من يعرف كيف يُعيد فيك الحماس حين تظن أنك فقدته.
كلما ضاقت النفس أو تراجعت الرغبة في الكتابة، أجد أمامي رئيس تحرير بحجم أستاذنا الدكتور عثمان الصيني — أستاذ في الدبلوماسية وفن التحفيز وطرد الطاقة السلبية يمتلك تلك القدرة على دفعك للاستمرار دون أن يقول الكثير. علاقتنا في هذا الجانب تشبه أبيات الشاعر سعيد بن حنس الذيابي:
«أنا أستحي منك، وأنت تستحي مني،
والكل منا دروب الطيب يبغاها…..».
الكتابة الصحفية لا تستهلك الوقت والجهد فحسب، بل تأخذ من خياراتك العملية والشخصية أكثر مما يُظن.
فكم من صديق قال لي: «كنا نوصي بانضمامك لبعض اللجان أو المهام، لكن بعض الأعضاء ترددوا لأنهم يرونك صارمًا ودقيقا إداريا لا تتسامح مع الأخطاء».
وكنت أجيبهم دائمًا بأنني أحمد الله على هذه السمعة، إن كانت الصرامة في وجه الفساد أو عدم التهاون تُعدّ تهمة، فمرحبًا بها.
فما أكتبه هو لخدمة الوطن أولًا وأخيرًا، لا انتظارًا لمكسب أو مجدٍ شخصي.
لذلك، لا أرى بأسًا في أن تُطبَّق بعض الجهات أفكارًا وردت في مقالاتي دون الإشارة إليها، بل أفرح بذلك. أحد الأصدقاء المحامين اقترح علي يومًا بقوله: «يجب أن ترفع قضية على الجهة التي نقلت مقالك حرفيًا واستفادت منه، ومستعد يكسبها بسهولة»، فأجبته مبتسمًا: «بل يستحقون الشكر لأنهم أخذوا به كما هو».
في السابق، كنت أتمنى على الأقل أن يردّ أحدهم بكلمة شكر. أما اليوم، فقد تجاوزت هذه المرحلة.
يكفيني أن أرى فكرة تتحول إلى مشروع، أو توصية تتحول إلى واقع.
بل إن بعض الأصدقاء نبهوني مؤخرًا إلى أن إستراتيجيات ومشاريع كبرى استُمدّت تفاصيلها الدقيقة من بعض المقالات التي كتبتها، فقلت لهم إنه توارد خواطر وأفكار لكن عندما ذكروا تفاصيل دقيقة إلى درجة يصعب فيها القول إنها مجرد «توارد خواطر حتى بين التوائم». ومع ذلك، لم أشعر إلا بالسعادة، لأن الأهم هو أن يحدث التغيير، لا من يوقّع عليه.
وفي النهاية، أجد أن الكتابة ليست مهنة بقدر ما هي رحلة طويلة من الاكتشاف الذاتي والفكري.
هي تشبه تمامًا ما قاله الكاتب الياباني الشهير هاروكي موراكامي:
«الكتابة مثل السفر إلى مكان بعيد، أحيانًا لا تعرف إلى أين أنت ذاهب حتى تصل».
وربما لهذا السبب بالذات، أستمر في الكتابة لأن الوجهة الحقيقية ليست المقال، بل الطريق الذي تصنعه الكلمة.