لم تكد تمضي دقائق على منشورها، حتى امتلأت حسابات سوريين في منصات التواصل الاجتماعي بمنشورات للرد عليها، بعضها من طائفتها ذاتها، وفي إحصائية أولية بلغ التفاعل مع الموضوع أكثر من 250 ألف منشور ومادة وتفاعل وتعليق.
هذه الحالة ليست استثناء، فالفجور في الخصومة موجود منذ سنوات لكنه أخذ بعداً آخر ومنحى تصاعدياً منذ تحرير دمشق، وبات يهدد العيش المشترك بين السوريين، مدفوعاً بخطاب طائفي وعنصري مقيت، يتصدره في بعض الأحيان أناس ليسوا من عامة الشعب، كما تجد الدول المتربصة فرصة ذهبية لإذكاء النار عبر آلاتها الإعلامية والتقنية في منصات التواصل الاجتماعي.
في مواجهة هذا النوع من الخطاب، يحاول العقلاء من كل الجهات والتيارات والطوائف وأد الفتن، لكن حجم ونوع الهجمات اللسانية الطائفية والعنصرية يتزايد بمعدل سريع، وإن ارتديتَ عباءة الناصح الأمين وطلبت من بعض السوريين المحرّضين كفّ ألسنتهم عن الخلق، سترى وتسمع ما لا يسرك:
إن أتيتهم بالشرائع السماوية كفّروك
وإن أتيتهم بالعلم والمنطق جهلوك
وإن أتيتهم بالعرف الاجتماعي شتموك
وإن أتيتهم بالإنسانية سلطوا عليك زبانيتهم ليؤذوك.
كلمة أو عبارة واحدة يمكن أن تشعل حرباً كلامية تخرج من الدائرة الفردية الضيقة إلى الدائرة الاجتماعية الأوسع وتقود إلى أفعال مدمّرة خارجة عن المتوقع وبعيدة عن المنطق، فالمشكلة أن الإساءات تجاوزت الاستهداف الشخصي إلى استهداف المكونات السورية طائفياً وعرقياً، لكن هذا واقع نشهده في سوريا حالياً، ولا يمكن التغاضي عنه بدعوى أن الزمان سيطويه، إذ إن عامل الوقت هنا ليس في مصلحة أي سوري يريد لهذا الوطن أن يهدأ ويبدأ في التعافي من حقبة نظام الطاغية الأسد.
لا شك أن سوريا تحتاج إلى كل شيء إيجابي وكل عمل جميل، لكنها في المقام الأول تحتاج إلى إنهاء كل أنواع التحريض الطائفي والمذهبي والعنصري والاجتماعي، وأن يسود الهدوء ولغة العقل، فبناء سوريا الجديدة لا يمكن أن يتم من دون حزمة شاملة أساسها القيم الإنسانية والمساواة والعدالة.
أمام هذا الواقع السوري الملبّد بغيوم سوداء، هل يمكن أن تشرق الشمس ونصل إلى وطن يحترم فيه الجميع الجميع، ويختفي فيه التحريض والتأجيج؟ وكيف نسيطر على الخطاب الطائفي والعنصري؟
لا شك أن الحلول موجودة دائماً، فالأمل والتفاؤل ليسا خياراً بل طريقا حتميا، إذا كنا نريد أن نبني سوريا الجديدة، وتشمل تلك الحلول إستراتيجية شاملة تتضمن مبادرات وخطوات قانونية وثقافية وإعلامية واجتماعية، تركّز على قيمة الإنسان وحقوقه وواجباته، وتنبذ الطائفية والعنصرية والتعدي على المكونات السورية قولاً وفعلاً.
في البداية، لا بد للحكومة أن تضع قوانين فعّالة تجرّم الخطاب الطائفي والعنصري وبث الكراهية والتحريض على العنف على أسس دينية أو عرقية أو طائفية تجاه مكونات الشعب السوري، مع عقوبات مشددة للمخالفين.
وهنا تبرز إشكالية كبيرة تتمثل في أن عدداً كبيراً من المحرّضين -مثل تلك الفنانة- يقيمون في دول أخرى ما يجعل تطبيق القوانين السورية بحقهم شبه مستحيل حالياً، ولذلك تقع على عاتق الجهات الحكومية السورية المعنية مسؤولية إضافية لإيجاد آليات قانونية عبر اتفاقيات دولية أو ثنائية مع الدول التي تستضيف المحرّضين لملاحقتهم قضائياً.
كما يجب على الجهات الحكومية المعنية والمؤسسات المدنية الفاعلة التواصل مع الشركات التي تملك منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وانستغرام وX لحثها على ضرورة تطبيق سياستها المعنية بالحد من خطاب الكراهية والطائفية على المحتوى السوري.
ومن المهم العمل الدائم على رصد أي مصادر خارجية محتملة لتمويل مجموعات أو شبكات تركّز على تأجيج الخطاب الطائفي لتغذية الصراعات، والتواصل مع الجهات الإقليمية والدولية المعنية لإنهاء خطرها.
ومن أهم الخطوات التي يتحتم العمل عليها، تأسيس مركز وطني متخصص مزود بأحدث الأجهزة والبرامج التقنية القادرة على رصد وتحليل المحتوى الطائفي والعنصري في منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، وإعداد إستراتيجية لمجابهتها قانونياً واتصالياً واجتماعياً.
وهنا يمكن الاستعانة بتجارب دول إقليمية سبقتنا في هذا المجال، ومنها على سبيل المثال المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف (اعتدال @Etidal) في المملكة العربية السعودية، الذي يستخدم أحدث التقنيات لرصد وتحليل المحتوى المتطرف وخطاب الكراهية عبر الإنترنت وتجفيف منابعه.
وعلينا ألا نغفل أهمية تطبيق العدالة الانتقالية ومحاسبة جميع مرتكبي الجرائم بحق الشعب السوري خلال فترة حكم النظام البائد، لأن من شأن ذلك أن يحقق العدالة للمظلومين ويمنع أي محاولة للتجييش والانتقام الطائفي.
ولأن تأثير خطاب الكراهية والتحريض الطائفي والعنصري هائل على المجتمع، فإن على مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني مسؤولية كبرى في نشر الوعي، وإطلاق جهود المصالحة ورأب الصدع وإعادة بناء الثقة بين المكونات السورية كافة، ومن المفيد عقد مؤتمر وطني جامع يصل إلى إستراتيجية تنفيذية تعزز الهوية الوطنية وتغلّبها على أي انتماء فئوي أو طائفي، وتردم الفجوات الاجتماعية التي حدثت خلال الأعوام الماضية، وتطلق حوارات مجتمعية خلّاقة بين مختلف المكونات، مع الحرص على إيجاد وسائل دعم اجتماعي ونفسي للمتضررين من الحروب الطائفية.
لا شك أن الحل بيد السوريين أنفسهم، ولن تنفع أي مساعدة خارجية ما لم يختر أبناء الوطن الحوار طريقاً والعيش المشترك غاية، ويتفقوا على دفن التأجيج، ويعملوا لولادة سوريا الحلم بعقد اجتماعي جديد يكبر بنا ومعنا جميعاً.