الأوَّل رجل يلبس قميصاً مخطَّطاً ويضع نظَّارة وشعره ميَّال إلى الحمرة (من يجده يتّصل بالمخفر وله مكافأة قيِّمة)، التقيته في مطار بيروت، وكنَّا على وشك أن نسافر كلٌّ إلى جهة، حين طلب بتهذيب لا مثيل له أن أعيره قلمي ليملأ به بطاقة المغادرة.
وأعطيته قلمي، بالطبع، شأن أيّ رجل متحضِّر يلتقي رجلا متحضّراً في مطار ما، فلطشه).
أمَّا الثاني فرجل يلبس قميصاً أبيض، التقيته في مكتب البرقيات في بيروت عند منتصف الليل، وكنت ذاهباً لأبعث برقيّة، فطلب مني – بتهذيب لافتٍ للنظر – أن أعيره قلمي ليكتب برقيّة.
وأعرته قلمي بعد محاضرة موجزة ألقيتها عليه، ملخّصها أنَّني أضعت قلما قبل فترة عندما استعاره مني رجل في المطار (في الحقيقة قلت له إنني أضعت عشرة أقلام لأجعل القضيّة أكثر دراماتيكيّة وتأثيراً) وقلت له إنّني أريد أن أستردَّ قلمي، ثمَّ نبَّهته إلى أنَّني لو نسيت، أو انشغلت، فعليه أن يذكرني.
ثمَّ أعطيته القلم، فلطشه!
وأنا رجل حسَّاس جداً تجاه أقلامِ الحبر. وبالرغم من أنَّ أقلامي ليستْ غالية السعر تماماً، إلاَّ أنَّها تشكّل جزءاً من حياتي. وحتَّي ريشتها نتكيَّف مع أصابعي بصورة حميمة، تعتادني وأعتادها ونشكِّل معاً علاقة تشبه العلاقة التي تتشكَّل بين أنف الرجل ونظَّارته.
ومن حقِّي طبعاً أن أحبَّ قلمي، فهذه قضيّة لا تعارض أيّة قوانين وضعها الإنسان؛ بل إنَّ امتلاك الإنسان لقلم حبر هو حقٌّ من حقوق الملكيّة لم تنل منه أكثر إجراءات الاشتركيين إمعاناً في التأميم.
ومعنى ذلك أنّه حقُّ مقدَّس، يشبه حقّ احتفاظ الإنسان بمعدته الخاصّة.
ولذلك فقد كان لهاتين الحادثتين وقع الكارثة عليّ، وأشعرتاني بغضب حزين مهيض الجناح، شديد العجز. فمن ناحية أولى لا أستطيع أن أطارد السارق، ومن ناحية أخرى لا تستحقّ المسألة برمّتها – في عرف الشرطة – أن أقدّم شكوى.
فاللصوصيّة في القوانين هي جريمة تتعلّق بثمن الشيء وليسِ بقيمته، وسيكون من المضحك أن أشكو إلى الشرطة رجلاً مجهولاً ذهب إلى مكتب البرقيَّات دون أن يصطحب معه قلمه، ليلطش قلمي، وثمنه عشر ليرات.
إنّه شيء يشبه أن يقوم (بابلو نيرودا) برفع دعوى على معين بسيسو، لأنْ الأخير لطش من الأوّل صورة شعريّة عن (الأشجار التي تموت واقفة).
من الطبيعي أن الشاب الذي لطش قلمي في المطار قد نسي أن يرجعه لي، ووضعه في جيبه بحركة بريئة، وكذلك الرجل الذي استعار قلمي في مكتب البرقيَّات الليلي في بيروت (كيف يذهب رجل إلى المطار بدون قلم، وكيف يجرؤ رجل ذاهب ليبعث برقيّة إلى مكتب البرقيّات أن يذهب دون قلم؟ إن رجال الشرطة مطالبون بأن يفتّشوا كلَّ داخل إلى مكتب البريد، فإذا اكتشفوا أنَّه لا يحمل قلماً منعوه من الدخول). أقول: من الطبيعي أنُّ عمليَّات اللطش هذه لم تكن مقصودة تماماً، ورغم ذلك فيجب أن لا تفرّ من العقاب، لأنْ تصرُّف قائد سلاح الجوّ العربي فجر 5 حزيران لم يكن مقصوداً تماماً، ومع ذلك فإنّه من المضحك أن نتركه يذهب إلى بيته، بالقلم الملطوش، لأنّه نسي إرجاعه إلى صاحبه!
والفارق بين قلمِ الشخصٍ، وبين السلاح الجوي لدولة من الدول، ليس كبيراً: فكما أنّ ضياع السلاح الجوّي يفقد الدولة المعنيّة غطاءها الجوّي، فإنّ ضياع قلم الحبر يفقد الشخص المعني قدرته على الكتابة، حتى إتمام إزالة آثار العدوان.
1962*
* كاتب وروائي فلسطيني «1936 – 1972»